كنت اشبه بالمجنون، بل كنته حقا، في سخريتي من موت كثير عشته في الحرب العراقية الايرانية. وبلغت تلك السخرية حدا انني كنت أناكف الموت في الهروب الى اقصى الحياة ولذتها.
كنت اهرب من جبهة "شرق البصرة" الى بيت عمتي في التنومة،
في مدينة كاد الوقت يجفُّ فيها والغناءُ يصير صوتَ أجلافٍ متحمسين، يبنون سياجاً يمنع الكركرات من خدش أسماع المايسترو، في مدينة كهذه، وفي فجر رمادي كان يتأهب لجعل المدينة صحواً جافاً، أستعيد هنا، أنا الحالم الحزين صوت الشاعر صلاح فائق: " لاشئ أقسى ...
لم يكن بيتا من النوع الذي يلفت الأنظار لعمرانه ولا في اثاثه الفاخر ولا في سعة أبهائه، بل انه فتن روحي لجهة عتمته وتداخل لون الجدران مع سمرة الاثاث، عتمة خفيفة في مدخله،
ما بين العمل في تسجيلات "صوت الفن" و"مكتبة النهضة" لاحقا في المساء، كان ثمة وقت من أوقات الضياع الجميل، وقت العمل لنصف نهار في مطعم "ابن ضعيفة" في الشارع ذاته الذي يقع فيه "مطعم نزار" والواصل ما بين "شارع ...
حتى أواخر ثمانينيات القرن الماضي، كان "شارع السعدون" يستعد كل مساء ليكون قلب بغداد النابض، فيما تخلد الاطراف الاخرى من المدينة الى بعض من الراحة جراء نهار عمل طويل.
هل كان ذلك محض صدفة؟ أن أنجذب الى عوالم خارج السياق الذي كانت تنضوي فيه حياتي : أن اذهب الى نتاج فني لم أتشكل في بؤرة تفاعلاته الحيايتة والاجتماعية، لكنني وجدت نفسي في تدفق تياراته وبواعثه الاساسية وظواهره الاكثر تحديثا.
في ربيع العام 1976 قرأت عند باب نادي كليتنا اعلانا للفرقة السيمفونية الوطنية العراقية يلفت الى انها قررت بيع تذاكر الدخول الى طلبة الجامعات بسعر مخفض، ولاننا أصبحنا مجموعة تدمن التجريب ومعرفة الاشياء عن قرب، لذا قررنا أنا وصديقي أمين على عودة
انها رائحة العشب، وثمة صوت الأم عبر جدار المطبخ ينادي على قهوة بالهيل، وثمة رائحة جرّاء حريق في رأسي. انا قربك عبرت للتو حقول الموت المزروعة في تخوم البلاد، هل توقظنا نسمة الخريف الندية؟ هل تطفأ النار في روحي؟ هل نندم على أوقاتنا المبددة بين وردات الكتب؟
نقاط الشروع والانطلاق، النقاط الحرجة والخوانق، كل مرتسمات الطرق، إمتدادها المستقيم، وانحناءاتها الملتوية، تلك الطرق التي اكتسبت ملامحها من حبر الاسفلت العميق، أو التي إكتست بصلابة بيضاء من صلصال مقطّع صغير، الطرق الرملية الخادعة