عجلات عسكرية وأخرى تعود لاهل المدينة الذين ينشطون في مبادلاتهم التجارية البسيطة. في الطرف الآخر من قزانية – المدينة، السوق الذي تبدو حوانيته المتناظرة البناء في عجلة من أمرها قبل ان تغلق ابوابها مع الضياء الاخير، دور المدينة البارزة بيضاء تعود الى نشاط حكومي معين ... عانت كثيرا من رشقات القصف الايراني وهناك جدران بكاملها حفرت فيها الشظايا بضربة فنان سوريالي دون ان تترك فيها مساحة مستوية !! هكذا تتآخى المدن الحدودية جميعا ... لها الكثير من النسائم وعندها وفرة من الاخضر ولها ايضا الوفير من الشظايا ! .... هذه المدن صديقة الجنود وميادينها التي كثيرا ما تصبح مرائب للعجلات الذاهبة الى بغداد، تحمل لهفة الجندي وحقيبته ... الحقائب رديفة الرحيل وابتعاد المسافة وارتباك الاصابع.
" قزانية" ضيقة ولكنها مفعمة ومشغولة بالنسيم وكذلك باعطاء الدلالة على نبعها القائم في مدخلها الغربي، مياهه باردة صافية ... نبع يبذل رحيقه لعجلات الجنود المتوقفة، وقزانية تفتح روحها للداخل اليها بلا تردد ... مباشرة ينتهي الطريق وينعطف بقوة الى اليسار، وبستان النخل يمتد على جانبي الطريق والنهر الذي ينساب طيعا متهدم الضفاف وينسى كل انشغالاته بالبهجة التي ستقيمها له البساتين ... " قزانية " واحة على الحدود دخلت ذاكرة الحرب، وهي تنظف شوارعها دائما من شظايا آخر قذيفة نزلت عليها.
" الطيب " .... سهوب الغزلان الموحشة
مدينة حدودية صغيرة في قاطع العمارة رسخت في ذاكرة الحرب وتحديدا في اخر عام 1982 والعامين التاليين . تلك المدينة الصغيرة النائمة في حضن سهل فسيح يمتد من المرتفعات الحدودية عميقا باتجاه العمارة، عبرت حدودها الضيقة الى مستوى اكثر سعة من خلال ارتباطها بمواجهات كثيرة شهدتها سنوات الحرب ... هي التي تمتد بنطاق ضيق من البيوت التي لم يكتمل بعضها حين هجرها الناس اتقاء لشر القذائف وتهديدها لرموز الحياة المكتظة في ابهاء تلك البيوت وغرفها التي اتسعت لكل شيء، شأنها شأن اي مدينة تمارس الاصباح يوميا على حياتها، ولكن ملاحظة الاستغراب هنا تأتي من خلال مرافقة المكان هذه المرة لاوقات تمعن في تغيرها، الصمت ثقيل ومويجات نهر المدينة في انحداره الهاديء تزيد من الاحساس بالصمت ومراقبة الاشياء المتولدة عنه ... معمل الاسفلت الذي سكتت مكائنه ومقالع الحصى ومغاسل الشواطيء، مغاسل الرمل ... مؤشرات لضجيج تفرضه الحياة وحين يغادرها نظل مشدودين اليه بأسف واضح ... نعم ضجيج الحياة وتيارها الجارف ... أبهى من قلاع الصمت المشيدة هنا بضخامة تكاد تغلق الآفاق ... لكنه صمت مع وقف التنفيذ ... فثمة الطرق المؤشرة على الخارطة ومقاربتها على الارض، ومن هنا تنزل القذائف على مداخل المدينة وطرقها تحديدا لذا فإن السرعة مطلوبة حين تدخل بالعجلة الى المدينة فتخترقها صوب المواضع التي تتوزع الحدود الى الشرق منها ... الطيب باتساعها ووحشة مداخلها تزيد من الاحساس بقسوة الشتاء وبرودته، لكنها تغدو وحتى المواضع القريبة منها ناعمة، بهية وتثير المرح بعد سقوط الامطار فطبيعة أرضها الممزوجة بالرمل والحصى، تجعلها بمنأى عن المرارة التي تثيرها الاوحال ... المطر هنا يغسل الشارع الوحيد، ويغسل الواجهات ويذكر الداخل للمدينة بالكثير من المظلات التي كانت سترتفع هنا على أرصفة يخط عليها الناس حركتهم، لكن يبدو ان على هذا المكان ان يزيد قدرته على تحمل فضاء الوحدة هذا، كي ينعم برقصة تثيرها المظلات المبللة باجمل ما يتركه المطر، قطرات صغيرة تتدحرج على قبة المظلة لتنزل من على اطرافها وتكون ايد ناعمة بانتظارها لتداعبها بمودة بالغة.
"الطيب" ايضا هي سهوب الرعي وقطعان الغزال البري المختبيء بين طيات الارض المتموجة ما بين ارتفاع واضح وآخر خفيض ... وعلى الرغم من كل المهارة الفائقة التي يبديها في التملص من التهديد وبشتى وسائله، غير انه كثيرا ما نجده ممتدا ومطهيا كي يقدم على رأس لائحة دعوات الطعام المميزة لضيوف الوحدات العسكرية، فهناك مهارة الصيد والدقة في الاصابة عند مقاتلين كانوا يجدون متعة لا تدانيها متعة، في اقتناص فريسة ناعمة كالغزال والعودة به من سهوبه الطلقة بعنقه الملتوية مطروحا على حديد عجلة الحمل الصغيرة.. ممارسة الصيد في براري " الطيب " وسهوبها شاعت بين الوحدات العسكرية كفسحة للهروب من يوميات الشظايا والقصف المتبادل والانذار بدرجاته القصوى دائما.. والى جانب الغزلان ثمة الطيور التي تكون أجنحتها المفتوحة اشارة الى فضاء خال من الشظايا ، كانت تطير هنا احيانا، وكانت فألا حسنا عند الكثير من الجنود المرعوبين ....
" الطيب " تفتش عن زهرتها البرية ما بين المداخل وضفاف النهر الهانيء بقاعه الرملي، بينما تكون نسمة منها قد عبرت باتجاه العمارة التي تنشغل بوفرة "ضيوفها" من العسكر وتعودت قضاء أوقات عذابها بأن تدلي أقدامها كطفلة لاهية في المياه التي تحاصرها من كل جانب.
الهواء النقي في قلعة دزة
" سنة عن سنة، عم تكبر بقلبي، عهد الولدنه، يا حلو يا حبيبي مبيعك بالدني، كل سنه بحبك اكثر من سنه "، صوت فيروز الاثيرة للنفس يتداخل مع صمت اللحظة التي تعلن عن وجوب رحيلي: إامرأتي انتهت من إعداد حقيبتي وأضافت عليها مجموعة كتب جديدة ودفتر يومياتي ... الساعة الحادية عشرة صباحا وطرقات الرحيل على زجاج روحي واصابع امرأتي المرتعشة، غير ان وسط بغداد غير عابيء بنا فمن ينشغل بعاشق يسكن الطابق الثالث في عمارة عالية لا ينسى ان يلقي نظرة ويطمئن فيها على نباتاته الصغيرة قبل ان يغادر امرأته الى جبهة الحرب؟
ها أنا في الطريق الى السليمانية، وصحبتي الدائمة للطرقات المتباعدة اقصى شمال البلاد أو جنوبها لم تسفر عن نتيجة ايجابية مع وحشة السفر. ومن أرض متموجة الى ما يشبه التلول انتهاء بمرتفعات تصعدها الطريق وتنزل الى عمق الوديان وترقى ثانية لنسمة باردة وعشب لم يزل اخضرا رغم الظهيرة الحزيرانية ! ومن اقصى نقطة في مرتفع "طاسلوجة"، تنفتح السليمانية أمامي تلبس الاخضر وتستلقي في اتساع "سهل شهرزور" الخصيب، وتتكيء على ظهر سلسلة "جبل ازمر".
لم يتعب قلبي بعد من وحشة الطرقات، أقابل نأي المسافات بتحويله الى قدرة ذاتية على التأمل وأنا اجتاز النهج الترابي الصغير صوب معسكر وحدتي. ينتصف أول نهار لي في المعسكر ويبدأ انسجامي مع تواتر المشاغل وابداء الملاحظات، في الغروب إستلمت اشارة تلفونية: التهيؤ ... وحدتنا ستبدأ حركتها الى مكان ما صباح الغد ... تبدأ التحضيرات، مجيئي ورواحي من والى المقر التعبوي للوحدة، منتهيا عند ما يشبه الغفوة التي أتت بها ساعة الليل المتأخر ومصحوبة بالنسمات تنزل من قمة "جبل بيرة مكرون"، فاقضي القليل من الوقت نائما حتى أيقظتني الشمس ... فجرا بدأ رحيلنا.
أخذنا الطريق المتفرع عند "قرية طاسلوجة"، التي لم تكن قد نهضت من نومها بعد ،صوب " دوكان " .. المسافة من "طاسلوجة الى دوكان" هي الطريق الى الجنة، مقاه صغيرة تتوزع جانبي الطريق، هي محطات للظلال الوفيرة والمياه الصافية الآتية من اعلى ينابيع الجبال، مروج خضراء كأنها الغبطة والى جانبها الترب المحروثة السوداء إشارة لخصب وفير ... الظلال والمياه في دوكان نجتازها من فتحة الزاب السفلى ونأخذ يسار المدينة لننعطف حول البحيرة الواسعة المتكونة أمام سد دوكان وجداره الكونكريتي الضخم، كمية المياه الهائلة تهدأ في سطح أزرق مستو، ثم نصل " خليكان " وهي حقول للتبغ (عجبا في ان التبغ الذي يلوث الرئات، يمتلك هذه النبتة الجميلة باوراقها الخضر الكبيرة )، ومن مفرق "بستانة " نجتاز ارضا سهلية لنواصلها صوب " رانية " المدينة التي تنشط حواريها على ضفاف بحيرة دوكان ويلعب فيها النسيم، مكان كأنه الحلم الضوئي بين الازرق المائي والازرق السماوي، حتى أكاد أهتف لهذا الفضاء من اللازورد، كم هي البحيرة واسعة وتملأ البصر وكم هي خلجانها الصغيرة جميلة حين تتبادل المواقع مع أشباه جزر اصغر منها ... ومن " رانية " نخلف وراءنا قرى عدة قبل ان ندخل " قلعة دزة " عبر جسرها الحجري القديم المطل على واد عميق ومنها يواصل الرتل على الطريق الصاعد الى فتحة الزاب وثمة ساعات للاستراحة عند منطقة "دار شمانة"، وفي جنبات ذلك المكان أنهى الجنود إكمال قيافة الميدان وعتاد الخط الاول والثاني وبدأوا صعودا يأخذون الطريق النيسمي باتجاه قمة الراقم الجبلي2719، وفي منتصف المسافة لم أعرف كيف اهتديت بمعونة الجنديين كريم واسماعيل الى نصب خيمتي، وفيها ارتميت ورحت في غفوة عميقة، قطعتها طلقات المدفعية بعيدة المدى لتضرب "التجمعات المعادية".
طيران الجيش بدأ نهار عمله بنشاط كبير، وعند الباحة التي كانت لصق السفح والتي اخترتها موضعا لي بدأت الإشارات تترى عن حرارة الموقف المحتدم عند أعلى الراقم فنقل الملازم الاول راشد جريحا وقدمت له مجموعتنا إسعافا اوليا قبل أن ينقل بعجلة إسعاف الوحدة الى مستشفى ميداني قريب، الموقف أسلم غموضه الى ارتالنا الصاعدة، وكثافة النيران التي توجهها المدفعية والراجمات ستتولى الاجابة على كل شيء، هكذا كنت إتابع إسناد عمليات وحدتي، وفي فسحة توفر لي فرصة الظل وافتتاح النسيم! تأملات لا اتوقف عن التداخل فيها وبمصاحبة من إرض معشوشبة ممتلئة بالعناكب والجراد الضخم والعقارب ... وثانية في افتتاح النسيم اكتب مستذكرا امرأتي :
ياوردة عمري، أي بعد ملغم بالضنى والهجرات، يطوينا في وحشته؟ لكنني، من هنا، اشم عطرك، يزهو براعما على عنقك، من هنا أقاتل قوى الفناء، حين توجه موتها نحو زهرة حبي، أرعى في مسيرة بين الروابي، في سواقي الماء النقي، وفي مفتتح النسيم، أرعى كل قدرتي على الحلم، أرعى النضارة في روحي، هكذا أشرق بالوان محبتك.
المدافع تضرب ثانية ... الجبال تيقنت من تحولها الى بيت كبير للوحشة ... المعركة انقشع عنها الكثير من الغبار ... "المغاوير " بدأوا الصعود وسيواصلون إتمام مهمة وحدتنا ... عاد المحاربون من سرايا فوجنا ... وتحدث آمرنا باشارات جادة وبأخرى لا تخلو من المرح وروح النكتة تعليقا على تراجع وحدتنا امام نيران القوة الايرانية المتحصنة أعلى الراقم الجبلي ، لاحقا جمعتنا وإياه مائدة على طرف ليلة صيف وانتهت جلستنا بما ورد عبر برقية من قيادة القاطع : " يعود فوجكم الى منطقة اعادة التنظيم والتهيؤ استعدادا للواجبات القادمة" (انتهت).
في الصباح التالي كانت عمليتنا في الفقرة الاولى من بيان القيادة العامة للقوات المسلحة 1129 الصادر في 21 حزيران 1983 ومشيرا الى "اجبار العدو على التقهقر"!! وكما نصت برقية قيادة القاطع، بدأنا الحركة لتنفيذ " الواجب القادم " وهذه المرة صوب فتحة الزاب الاعلى، وعند قرية صغيرة اسمها " نور الدين " حيث الاخاديد المزروعة بين السفوح اخترنا منطقة للاستراحة،
فتوزعت السرايا واستلقى الجنود على العشب وبدأت " حفلة " شاي صاخبة، لا اعذب ولا احلى ! ثم بدأنا بالصعود حتى وصل الرتل لاقصى نقطة ينتهي عندها الشارع الاسفلتي لتبدأ التضاريس تتنوع، تتلون وتصبح اكثر بدائية، كانت الطريق تمتد ما بين مرتفعات ووديان ضيقة كأن الحياة خلقت فيها للتو، الزاب بمياهه الصافية يندفع بقوة على جرف ناعم وبراق ثم ارتفاع آخر يوصلنا الى حوض معشوشب فسيح، ثم الى قمة تقطع الانفاس من مجرد الاخذ بالحسبان فكرة اجتيازها، وعند اقصاها كان الهواء العالي يتداخل مع رتلنا الذي يتجمع كي تتسنى لنا فرصة منظمة للنزول، وهذه المرة بطريق منحدرة بشكل حاد الى نقطة من السحر والاكتشاف البهي لكنها نقطة قصوى في المشاق.. أحقا هنا كل هذا الجمال ؟ على رأسي قبعة الانبهار، أتطلع نحو التفاصيل العذبة للينابيع والاشجار تنساب حول اكتاف السواقي النازلة سريعا من السفوح الى حصى الزاب ... الحياة المنتفضة هنا بدت ملغومة بكثير من الاسرار؟ بالكثير من البنادق وبالقوى المخصصة لاغتيال الحياة؟ نعم .. قتل المخابر كريم ، حين تلقى رصاصة قناص أسقطته مع جهازه فاستقر بين صخور الوادي ... لمن كنت تبتسم دائما ايها القتيل؟ و جاءنا الجندي محسن مشتت الذهن ...فقد سقطت قنبلة قربه وسببت له الصمم الوقتي ...
القمة – الهدف كانت عبارة عن امتداد متواصل لقطوع جبلية شاهقة تتعالى منها اعمدة الدخان جراء شدة القصف المدفعي الذي امطرت به قطعاتنا تلك المنطقة التي شهدت استحكامات "القوة المعادية" ...
هدأ كل شيء ...وتم احتلال الاهداف المؤشرة. وفي النهار التالي عدنا الى " قلعة دزة " عبر السفوح والقواطع والمضائق، وعند ضاحيتها بدأت العناية بشتات الذهن في دفتر اشواقي: "من هنا، من آخر الحدود، من عصب الوطن شديد الرهافة، اكتب اليك تنويعات على نشيدنا البهي وقلبي ينبض بالوجع وروحي كدرة جراء التفريغ الهوائي المرعب الذي تحدثه قنابل المدفعية الثقيلة، عائد اليك ايتها الشجية، أنعم معك بالمساء في "صالة البهجة"، نقيم على طرف الحنين ... والامنيات هذه كلها، ساودعها هنا لتصبح صديقة المضائق وطرق الجبال القصية، أرضها الوفيرة الينابيع وأفقها الباذخ النسيم، علّنا سنعثر عليها ذات يوم حين نأتي الامكنة وهي تستمع للغناء البسيط وتدخن لفافة تبغ مشبعة على ناصية مقهى تنشر كراسيها تحت الظلال.