ساحة التحرير ببغداد اوائل سبعينيات القرن الماضي
وفي حين كنت تستمر بالمسير في شارع السعدون بعد ان تعود اليه اذ انتهيت من احتساء الشاي المعطر بارواح "المعقدين" واثرهم الذي اضاء ليل بغداد وداعب روحها لسنوات، كنت ستصل الى "مكتبة الطريق" التي شعت مع اجواء الانفتاح السياسي في سبعينيات القرن الماضي، وكانت محطة للشيوعيين واصدقائهم المعروفين بنهم القراءة وحب المعرفة، فيما من الطرف الاخر كانت هناك "مكتبة الصياد" التي عمل فيها الصحافي علي حيدر، وكانت مصدرا جيدا لكتب الثقافة الادبية المعاصرة، لكنها كما " مكتبة الطريق" التمعت فجأة لتختف بطريقة مفاجئة أكبر. وفي الثمانينيات ظهرت في مكان قريب من "ساحة النصر" مكتبة هي أسم على غير مسمى ، فـ"مكتبة اصالة البعث"، كانت تضم اكبر عدد من الكتب المناهضة لفكر البعث، وكان صاحبها (ابو طه) الذي وسع عمله من بائع للصحف الى مكتبي خبير، يقدم لمن يثق بهم اصدارات وكتبا مخبأة تتصل بافكار ومفهومات مناقضة لفكر البعث.
فسحة الزمن الجميل
ساحة النصر، كانت مكانا محوريا في حياتي، مكانا مخصصا لمواعيد انتظار وفسحات بهجة كانت تبدأ منها لتأخذني الى عروض سينمائية كانت شكلت منعطفات في تاريخ الشاشة البيضاء ( عروض سينما "سمير أميس" و"بابل" و"النصر" وقليلا منها في "النجوم" و"اطلس")، وعروض مسرحية في " مسرح الستين كرسي" حيث ورشة عوني كرومي و"مسرح اليوم" و "مسرح بغداد" حيث التجديد والغنى الفكري والفني في عروض "فرقة المسرح الفني الحديث". كانت "ساحة النصر" مكان تجمع لاصدقاء ومواعيد مع صديقات ولا حقا حبيبات، مثلما هي المكان الذي ينطلق منها الباصان المرقمان 21 و 62 اللذان كان يأخذاني الى مكان قريب هو "ساحة النسور" او " الاربعة شوارع" في اليرموك ومنهما اكمل المشوار في باص 45 الى البياع حيث أقيم. ومنها ايضا كنت اصعد الباص الشهير رقم 4 وهو في طريقه الى آخر محطاته " ساحة الاندلس" حيث اتحاد الادباء وامسياته الشهيرة، او الركوب في الباص ذاته ولكن في الاتجاه المعاكس او الباص رقم 2 باتجاه "ساحة الميدان" للقاء اصدقاء من الحلة في بيتهم بالوزيرية او في القسم الداخلي بـ" الباب المعظم" أو في فسحة البهجة الانيقة التي توفرها حديقة "البريتش كانسل". وكان اختيار الباص مقصودا، فهو يعني فرصة الاطلالة على امكنة وشخوص ( الباص ذي الطابقين بخاصة)، والتأمل انطلاقا من فكرة في كتاب او صحيفة، وفي حال كانت الحاجة الى وسيلة نقل اسرع، فثمة سيارات الاجرة الصغيرة في خط النقل الشهير: ساحة النصر- ساحة الميدان، وكانت باغلبها سيارات من نوع "فولغا" الروسية الصنع.
الانتظار في " ساحة النصر" ( قبل ان تتحول الى اكبر تجمع للاطباء وبالتالي المرضى) كان متعة لا تضاهى، حيث فسحة لقراءة مقال في صحيفة او مجلة، ومتابعة فصل كنت بدأته في رواية او واحد من كتب السيرة التي ادمنت قراءتها، مثلما هي فسحة للتأمل بين وجوه جميلات واستنشاق عطورهن او التمعن في رقة وجرأة ما يلبسن من ثياب.
وبالقرب من ساحة النصر في حال المضي قدما في " شارع السعدون" تنتشر الكثير من البارات التي كنت اكره منظرها المطل على الشارع حيث كان يتبارى كثير من روادها بمنظر تجميع اكبر عدد من قناني البيرة على موائدهم، ضمن مشهد للشراهة كنت اجده غاية في البذاءة والسلوك الرخيص، فيما كان "بار الفارابي" الانيق المطل على "شارع ابي نؤاس"، مكانا افضله للقاء الاصدقاء وقضاء ليلة جميلة اخرى بعد ان انتقلنا اليه تخلصا من ضجيج "بار ليالي السمر". وفي تلك الفسحة من شارع السعدون، وتحديدا القريبة من " سينما أطلس"، كان المقهى المطل على الشارع انطلاقا من مدخل دار السينما ذاتها، وفيه كان يتجمع هواة الشطرنج ومدمنو الطاولي ورجال ونساء ينتظرون موعد بدء العروض السينمائية، الا انني نادرا ما اختبرت الجلوس في المقهى حتى في حال انتظاري بدء العروض وكنت افضل الدخول الى مكان قريب هو " تسجيلات صوت الفن الحديث" الذي كان عمد الى تقليد جميل لم اتعرف اليه لاحقا الا في لندن ونيويورك، وهو في تخصيصه اجهزة تسجيل مع "هيد فون" يمكن من خلالها للزبائن ان يستمعوا الى ما يفضلونه من الحان واغنيات قبل اقتنائها. وعبر ذلك التقليد كان يمكنني ان انتشي بالحان قصيرة، تبدأ من "هوتيل كاليفورنيا" للفريق الغنائي " ايغلز" ولا تنتهي بجديد السمراء البريطانية التي ذاع صيتها منتصف سبعينيات القرن الماضي تينا تشارلس، مرورا بفيروزيات عذبة كثيرة.
ومن الامكنة التي كانت ترّق لي كثيرا في شارع السعدون، وتنقلني الى ايحاءات عدة، تتمحور في فكرة السفر والاتصال مع المجتمعات الاخرى، كانت مكاتب شركات الطيران الاجنبية، فكان مكتب "سويس إير" بالخط الآسر الحديث لأسم الشركة والصورة الكبيرة لجبال الألب خلف موظفيه، و"لوفتهانزا" بلونيه العميقين الازرق الغامق والاصفر، كما لوني الشركة، ومكتب " اير فرانس" بالوانه " الابيض والارزق والاحمر كما العلم الفرنسي، ومكتب" اير انديا" عند المدخل الساحر لفندق بغداد، ومكتب" ايران اير" بعلامته المميزة لرأس حصان اسطوري اقرب الى الطيران، فضلا عن "مكتب توماس كوك" المختص باصدار "الترفل تشيك" الذي عادة ما كان يفضله المسافرون كوسيلة لتأمين المال في خارج البلاد بدلا من حمل النقود، وهو ما كان اقرب اليوم الى " بطاقات الضمان". مكتب الشركة المالية الشهيرة كان درسا في الاناقة والترف، لجهة بساطته ولكنها بلاغة البساطة وغنى ملامحها. الاناقة المكتبية تلك كانت تجد صداها في مكاتب شركات عراقية مختصة باستيراد الساعات الثمينة وبيعها: جواد الساعاتي ووكالة شركة "رادو" وقبلها "رولكس".
المدخل الساحر لفندق بغداد في شارع السعدون بسبعينات القرن الماضي
الاتصال مع المجتمعات الاخرى كانت له علامات اخرى في شارع السعدون، ومنها "مكتبة مكنزي" الشهيرة التي تراجعت مكانتها مع منتصف سبعينيات القرن الماضي تزامنا مع صعود قيم التشدد " الوطنية" و" القومية" والاتجاه الى التعريب الاجباري في الثقافة والتعليم العالي. وليس بعيدا عن تراجعها واغلاقها لاحقا ان البلاد كانت تزداد انغلاقا وعزلة وصعودا لقيم العداء للاخر وووصمه بالمؤامرة. واذا كانت " مكتبة مكنزي" ضحية هذه القيم في عدائها للاخر "الاجنبي"، فان مكتب صحيفة " طريق الشعب" التابعة للحزب الشيوعي والمقابل تقريبا لـ"مكتبة مكنزي" كان النسخة "الوطنية" من ضحايا قيم التشدد الوطني والقومي البعثية، فقد اغلق الباب المؤدي الى بيت انيق مطل على الشارع، ومعه اغلق الطريق الى مكان تعلمت منه اولى معارفي الصحفية، واولى مباهجي في النشر الادبي وتحديدا في كتابة قصيدة النثر، ذلك الشكل الكتابي الذي ستمتنع الصحيفة عن نشره لاحقا، حين ابلغني لاحقا الشاعر حميد الخاقاني بان قصائد النثر تثير حفيظة السلطات في وزارة الثقافة والاعلام وتحديدا الوزير الشاعر شفيق الكمالي الذي كان يعتبر " قصيدة النثر مؤامرة على الامة العربية".
"ترزي الندى"
من ذلك المبنى الانيق لطالما كنت خرجت انيق الروح مبتهجا بقصص نشرت لي في صفحة " ادب الاطفال" او بتحقيقات واخبار قصيرة عن اصدارات ونشاطات فنية وادبية في الصفحة الاخيرة، ومقالات مترجمة في صحفة للطلبة والشباب، كانت رائدة حينها، اذ قلدتها صحف عربية كبرى ولكن بعد عشرين عاما، في تخصيصها ملاحق للشباب وقضاياهم، وكلها جاء طوعيا وجزءا من عملي صحفيا متدربا، على يد كتاب وادباء وصحافيين وكتاب واكاديميين كانوا يشعون ابداعا ومحبة وانفتاحا فكريا وانسانيا قل نظيره.
انه مكان ينث "ندى" على الروح ليس اقل من الندى الذي يختصر الاثر الانساني في حضور " ابو ندى"، توفيق الخياط، في صومعته الحرفية والثقافية والانسانية التي وإن كانت تضيق الا انها وحتى في اشد ايام العراق قسوة : صعود الديكتاتورية وسنوات الرماد في حربي ايران والكويت ولاحقا الحصار، كانت تنث ندى يقلل في الروح جفافها.
محل توفيق الخياط كان قريبا من مكتب" طريق الشعب" واقرب الى " سينما بابل " بل هو في اول الشارع المتفرع من " شارع السعدون" والمؤدي الى "مسرح بغداد"، وكنت تعرفت على اول لمسة منداة منه حين اصطحبني اليه اخي قاسم اثر خروجنا من " طريق الشعب"، لاتعرف من خلاله على كيف يمكن لانسان يبدو " عاديا" ان يختصر عمقا انسانيا وتاريخيا وثقافيا في حكمة شخصية مؤطرة بالحكمة العميقة. ولم ازر "ابو ندى" الشيوعي النبيل الحالم بعد السبعينيات متوقعا انه غارد البلاد هربا من ملاحقة نظام البعث المؤكدة له، حتى فاجأني الصديق الفنان مقداد عبد الرضا في آواسط الثمانينات بان ندخل الى محل " ابى ندى" للسلام عليه، فتصلبت مكاني مترددا من لقاء من توهمت انه لم يكمل معنا فصول المأساة والرعب، وآثر "الرحيل طلبا للسلامة" كما هي الفكرة شبه الثابتة عند اغلب العراقيين الذين كانوا ينظرون الى رحيل اصدقائهم او زملائهم بحثا عن مكان آمن لم يكن الوطن قادرا على توفيره. ولم اكن انا بعيدا عن مثل النظرة التي اختبرت لاحقا عدم انسانيتها وقسوتها بعد ان صرت احد ضحاياها من خلال رحيلين، الاول كان اختياريا في العام 1994 والثاني قسريا في العام 2004.
" ابو ندى" الانيق المنكب دائما على اضفاء لمسات حرفته، كان بندى لقاء الاصدقاء ذاته، ولكن بشيء من الاطراقة العميقة والنبرة الاكثر خفوتا في الحديث، وبكثير من الاشارات الموجزة الحكيمة تعليقا على اوضاع البلاد في فصول محنتها المتصلة. سألني اولا عن اخي قاسم، دون ان ينسى السؤال فيما اذا كنت اواصل الكتابة، لابلغه بقائي على قيد الحياة الثقافية، دون ان اقترب من محظورات السياسة في العمل الثقافي حينها، فانا خارج المؤسسة الثقافية الرسمية ولم اكن موظفا في اي منها ، ولست عضوا في اي منها عدا اتحاد الادباء، واواظب على النشر في مجلة " فنون" ولا حقا " الف باء" و صحيفة "القادسية" و اكاتب مجلة "اليوم السابع" الباريسية عبر كتابات في نقد الموسيقى وبعض من نصوص شعرية رمزية وقراءات نقدية في نتاجات أدبية جديدة.
وبقدر ما قابل تلك الاخبار بشىء من "ندى" ابتسامته، فانه لم يتردد عن ان يدق جرس انذار في روحي، حين كان يرى سوءا اكبر ستمضي اليه البلاد، لم اكن انا حقا اراه ناهيك عن تحسس بواعث مخاطره، التي كان يبث لي بها في كل مرة التقيه، الى أن كسر ظهر البلاد في العام 1991، حين صار الندى في ابتسامته حزنا شفيفا ينسجم مع نظرة متأسية وكلاما كثير الخفوت اقرب الى الاهات المتصلة منه الى ان يكون حروفا ومفردات.
وفي الايام الاخيرة من وجودي في بغداد وقبيل مغادرتي لها في العام 1994، كنت ادير عيادتي الخاصة في مجمع الشؤون الزراعية والبيطرية بمنطقة "السنك"، وكان الطريق الى بيتي القريب من المسرح الوطني في الكرادة يمر بي يوميا على ركن "الندى" الانساني في بغداد، وهو ما جعلني اتوقف عند " ابي ندى" محاولا التطهر مما علق بي من اسئلة القمع والحصار وغبار الحروب وانشغالات تجارة الادوية واللقاحات، وفي واحدة من اشاراته اللافتة والنادرة، ابلغني توفيق الخياط بان نبرة من الغضب والنقد الحاد والمباشر للنظام والاوضاع البلاد هي المميزة لحديثي، دون ان ينسى التنبه لما كنت لم اقرره بعد، فهو توصل الى اعتبار تلك النبرة الغاضبة، مؤشر يأس سيدفعني الى الرحيل. ومرة اخرى يرى " ابو ندى" ما لم اكن اره، فبعد نحو سنة من تعليقه ذاك ، توجهت الى محله مودعا اياه دون ان اتمعن لا في حديثه ولا بملامحه، اذ كنت مطرقا الى داخلي الغاضب والصاخب واليائس.
وفي احدى زياراته الى منزلي بعمّان حيث ندى العراق لم ينفك يلطّف اجواء حياتي ويؤرقها ايضا، ابلغني الصديق مقداد عبد الرضا، ان " ابى ندى" رحل، تاركا لروح العراق ان تفجع بقوة، وان تنشغل بمعاينة فصولها وهي تمضي قدما نحو ازمان تفتقد القلوب "الندية"، مثلما الامكنة تغلق فصول نداها ومسراتها شيئا فشيئا لتستحيل الآن شواهد على مدينة بلا قلب، مدينة الحواجز الكونكريتية.