فيلم وثائقي عن طالب غالي: ثناء مستحق لصاحب "الألحان الماسية"
تاريخ النشر
09/02/2017 06:00 AM
علي عبد الأمير
إن قصدت في وصف الموسيقي، ذلك التكوين الإنساني الوجل الشفيف المتأسي، فستجد في الملحن والمطرب والشاعر العراقي طالب غالي مثالا حيا. وإن قصدت في وصف علاقة المثقف بالمكان، هوية وروحية مميزة، فستجد في طالب غالي، ملامح مدينته: البصرة، كعلامة بيئية وثقافية ظلت ممسكة بكل تجربته حتى وإن بدا بعيدا عنها إلى منافي القسر والأشواق المؤجلة.
طالب غالي في المشهد الإفتتاحي لفيلم "حنين نخلة" للمخرج فائز صبري
هذا هو مدخل يصح لقراءة فيلم وثائقي حمل عنوان "حنين نخلة" وانتج العام 2008 عن غالي الذي وضع اللحن المميز لقصيدة "يا سالم المرزوق" التي شكّلت واحدة من الملامح الأصيلة للشاعر سعدي يوسف. الفيلم من سيناريو وإخراج فائز صبري الذي وفق في تقديم صورة تبدو أقرب الى حقيقة ما انطوى عليه صاحب لحن رائعة السياب " غريب على الخليج" من قدرات كانت كافية لجعله يتبوأ أعلى المقامات في اللحنية العراقية والعربية، لو كانت أيامه عادلة وحياته منصفة، ولو كان هو شخصيا على مسافة أبعد عن السياسة والخيارات الأيديولوجية، التي أثقلت على ما فيه من رهافة النغم والتعبير الموسيقي بعامة. كما انه يأتي كتقليد حسن، إلا وهو الإحتفاء بمبدعي بلادنا عبر أفلام وثائقية تحفظ لهم أثرهم المعرفي والانساني.
كان مشهد خطوات الرجل وهي تمتزج بالناس في شارع من شوارع مكانه الأوروبي، خيارا إخراجيا موفقا لبحث الأزمة الروحية- الوجودية التي يعنيها صاحب ألحان أوبريت "المطرقة" الذي شكل علامة في اللحنية العراقية المعاصرة، فالرجل بدا وكأنه يسرع في خطاه من اجل اللحاق بما يوشك ان يفلت من يديه، وهو كثير وموجع حقا ذلك الذي يوشك ان يغادره: فلا الوطن الذي أفنى أعذب سنوات حياته من اجله، هو الوطن اليوم، ولا الجدوى الفكرية والثقافية التي اندرج في تفاصيلها ومواجهاتها ذات أثر حقيقي اليوم، بل حتى المدينة التي صارت ملامحه واغنيته وهواه واشواقه، صارت غريبة قاسية.
وحيال الخراب المنظم الذي عاشته الذاكرة الوطنية العراقية، بسبب تأثيرات الانتماء السياسي وما جرّه على الحركة الثقافية من احتراب واهمال وصل حد المحو، كان من الطبيعي ذلك الفقر في الأرشيف الشخصي والعام، وهو ما حاول المخرج فائز صبري تعويضه ببعض صور فوتوغرافية تصور مراحل الإنتاج الموسيقي والغنائي لطالب غالي، فضلا عن حلقات بدت ضائعة رغم أهميتها، فلا وجود لمادة ارشيفية لاغنية جميلة "حدّر يا هلبلام.. حدّر علينا" التي قدمها لصوت فؤاد سالم الذي كان حاضرا في الفيلم ضمن الشهادات الشخصية، وكان طبيعيا لو أدى مطلع هذا العمل الجميل بصوته ضمن سياق شهادته عن صديقه الذي شكل معه ثنائيا ناجحا (نحو عشرين أغنية) خلال تواجدهما في الكويت عقب مغادرتهما العراق، مع اشتداد حملة القمع الواسعة التي شنها نظام البعث ضد الفكر اليساري والشيوعي على نحو خاص أواخر سبعينيات القرن الماضي.
وجاء اختيار الشهادات عن طالب غالي، عبر الموسيقار حميد البصري ورفيقة حياته الفنانة شوقية، ثم المخرج والممثل قصي البصري، فالمطرب فؤاد سالم، موفقا للغاية اذا ما عرفنا ان أصحابها شكلوا إلى جانب صاحبهم، فريقا متجانسا كان أقرب الى الورشة الفنية التي قدمت علامتين في الموسيقى العراقية المعاصرة عبر أوبريت " بيادر خير" الذي وضع ألحانه حميد البصري ثم "المطرقة" الذي صاغ غالي بنيته الموسيقية، فضلا عن وضعه ألحان العمل المسرحي – الغنائي "ليالي الحصاد" الذي شهد ولادة صوت غنائي صار لاحقا علامة فارقة هو المطرب رياض أحمد.
ومع أهمية الشهادات، لاسيما ما قدمه الموسيقار حميد البصري والمطرب فؤاد سالم الذي كان دقيقا حين وصف ألحان صديقه بكونها "ماسية"، في رسم المسارات الحياتية- الفنية للفنان-الشاعر طالب غالي، الا انها بدت قاصرة عن رسم أبرز ملامح تجربته في الموسيقى تلحينا ورؤية نغمية لقوالب عدة منها قالب غناء القصيدة، وفيه قدم عملين بارزين: "غريب على الخليج" للسياب و "يا دجلة الخير" للجواهري. وكان من الضروري وجود شهادات من عائلته لاسيما انها عائلة فن وكتابة ومعرفة، فضلا عن شهادات صحافيين وكتاب على معرفة بالرجل وعمله الثقافي، لبلورة خلاصات عن سيرته ومكانته، مثلما بدا عنوان الفيلم "حنين نخلة" أقرب الى النمطية القاتلة التي عادة ما يسقط فيها أدب المنفى العراقي وفنونه.
ومع الاستخدام الموفق لقوة نبرات الممثل والمخرج باسم قهار في قراءة التعليق، جاء مشهد النهاية شديد الحزن، لا سيما مع لقطات بدا فيها الفنان – الشاعر طالب غالي، وقد راح في اغفاءة المتعب الحزين وكأنه يبتعد عن حياته أو يودعها، فيما كان الأجدى ان نتوقف عند ما هو انساني عابر للمحطات الحياتية اليومية، ذلك الذي قدمه من براعة لحنية في عمله "غريب على الخليج"، فحتى الغربة هنا كانت اغترابا وهي موقف من الحياة وتحولاتها، من الوطن – العراق ومعناه.