علي عبد الأمير
ظلت السردية الثقافية المتداولة للعاصمة العراقية بغداد، ولعقود طويلة، حكرا على التأويل السياسي الذي رسخته الأحزاب اليسارية والقومية العربية والكردية، لجهة الإحتراب بين تلك الأحزاب "التقدمية" والسلطات الحاكمة "الرجعية" إن كانت ملكية، و"الغاشمة" و"الفردية" و"الشوفينية"، إن كانت جمهورية، وللصراع الفكري بين تلك القوى ذاتها، وحتى في حال تراجع سطوة التأويل السياسي ليقترب من الثقافي الحقيقي، فانه بالكاد يذهب لصالح "القضايا الكبرى" مثل سيادة الأدبي والفني على الفكري والنقدي، والصراع بين "الأصالة والمعاصرة" وغير ذلك مما كان هادرا لكنه لا يقول الكثير، ومتحصنا بكثير من الذرائع لكنه لا يقارب اليقين. هنا تاريخ ثقافي ليس بالضرورة انه مكتسب لضرورات الموضوعية "التاريخية"، انه الى حد كبير توثيق شخصي لتحولات ثقافية واجتماعية، عشت بعضها، وتوصلت الى معرفة البعض الآخر من خلال إندراج شخصي في بحث التاريخ العراقي المعاصر، وبخاصة منذ قيام الدولة الوطنية 1921. هنا محاولة في رسم صورة للحياة البغدادية، من منظور ثقافي، لا اجد غضاضة في القول من كونه يتصل بمفهوم "النقد الثقافي" الذي تعرفنا على اطروحته وتطبيقاته عربيا في العقد الأخير من القرن الماضي، مثلما لا اجد غضاضة في الاشارة الى انه قد يبدو تأريخا شخصيا، على الاقل في منظور الاحداث والمراجعة النقدية لها، غير انه على ما احسب سيظل مدخلا جديدا لقراءة الثقافي والسياسي والاجتماعي لبغداد ليس متداولا على نحو واسع.
بغداد أيار/مايو 1958 مر عشرون عاما على افتتاح مكتب لشركة "مترو غولدن ماير" السينمائية الأميركية في بغداد، ومعها كانت العاصمة العراقية قطعت أشواطا نحو الحداثة الفكرية والإجتماعية، حد إنها كانت واحدة من عواصم مختارة في العالم كي تحتضن حفلا لموسيقي الجاز الأميركي الشهير ديف بروبيك وفريقه الرباعي. وفي مدونات دبلوماسية أميركية نقرأ: "خلال الأسابيع التي سبقت وصول عازف البيانو الأميركي لموسيقى الجاز ديف بروبيك، إلى بغداد للعزف في "مسرح الخيّام" يوم 8 أيار/مايو من العام 1958، كان "التوتر والحماس يتزايد يوميًا"، وذلك استنادًا إلى رسالة بعثتها السفارة الأميركية في بغداد في ذلك الوقت. وجاء في رسالة السفارة، إن عشاق موسيقى الجاز العراقيين "لم يتمكنوا من تصديق آذانهم" عندما سمعوا بأن بروبيك سوف يحضر إلى بغداد، واستقبلوا حفلاته استقبالاً عارمًا وحارًا". ديف بروبيك المولود في العام 1920، سميّ "إسطورة حية "من قبل مكتبة الكونغرس، ليكون واحدا من الموسيقيين الأكثر نشاطا وشعبية في موسيقى الجاز، كان ولد لعائلة موسيقية في مدينة كونكورد، بولاية كاليفورنيا، فقد كان شقيقاه الأكبر سنا أيضا موسيقيين محترفين، ليبدأ دروس العزف على البيانو مع والدته في سن الرابعة، ولتتغير حياته كليا حين بلغ الثانية عشر عندما انتقلت عائلته الى مزرعة للماشية في سفوح جبال سييرا، لتنتهي دروس العزف على البيانو وتبدأ حياة رعاة البقر. شكل بروبيك فرقته الرباعية وقدم سحر موسيقى الجاز لآلاف من الشباب في المناطق العامة، فضلا عن نوادي الجاز في معظم المدن الأميركية الكبرى، وجال عليها مع فنانين مثل ديوك إلينغتون، إيلا فيتزجيرالد، تشارلي باركر، ديزي غيليسبي وستان غيتز. وفي العام 1954 ظهرت صورة ديف بروبيك على غلاف مجلة "تايم" مع قصة عن نهضة موسيقى الجاز وصعود بروبيك الهائل.
من وصول بروبيك وفريقه الى بغداد
في عام 1958 قدم الرباعي، برعاية وزارة الخارجية الاميركية، حفلات في بولندا، الهند، تركيا، أفغانستان وباكستان وإيران والعراق. وقد انعكس اللقاء مع العديد من الثقافات المختلفة في ذخيرة المجموعة التي أدرجت في بعض الأحيان العديد من العناصر المتصلة بأنغام تلك المجتمعات وثقافتها.
في حفل بروبيك وفريقه الرباعي في مسرح "سينما الخيام" ببغداد، استمع متذوقون من ابناء الطبقة المتوسطة المتعلمة، ودبلوماسيون الى أنغام ومقطوعات من اسطوانة "تايم آوت" التي أصبحت أول اسطوانة لموسيقى الجاز تبيع أكثر من مليون نسخة و اسطوانة "خذ خمسة" الموضوعة اليوم في "قاعة المشاهير" بالمبنى الرئيسي لمؤسسة "جائزة غرامي" التي يحلو لي تسميتها بانها "أوسكار الموسيقى".
|