شكلت أفلام السيرة الذاتية، تيارا سينمائيا، غالبا ما يتمحور في تصوير المنعطفات الحياتية الأبرز لشخصيات مؤثرة في مجالاتها: السياسة، فكرة الحرية، والإبداع في مجالات الفن والأدب والعلوم، بل حتى شخصيات مجردة تبدو عادية لكنها حفرت اسمها عبر إعلائها مآثر وقيماً إنسانية لافتة.
نقديا، تبدو أفلام السيرة الذاتية، وهي شبه ضامنة لنسبة كبيرة من النجاح، فهي تستعير نفوذ الشخصيات المهمة التي تصورها، وبالتالي فان كثيرا من النجاح الذي تحققه تلك الأفلام ينبع أصلا من نجاح شخصياتها الحقيقية التي تتصدى إلى نقل سيرتها إلى الشاشة.
وهناك فضلا عن التصوير "الواقعي" لسير الشخصيات، معالجات درامية تزيح الأبطال المؤثرين عن مسار حياتهم "الواقعي" إلى الكثير من الخيالي والفني الصرف، وهو ما فعله مثلا المخرج مارتن سكورسيزي في عمله " الإغواء الأخير للسيد المسيح" فدفع بسيرة النبي عيسى إلى مسارات خيالية لا علاقة لها بالمتداول الديني والتاريخي عنها، بينما نجد عشرات الأمثلة لأفلام سيرة ذاتية ناجحة، صاغ مخرجوها صورتهم الدرامية بطريقة متقنة فنيا دون الإخلال بالأمانة التاريخية والواقعية لشخصياتها التي عنت بتقديمها على الشاشة، وهو ما فعله المخرج أوليفر ستون في أفلامه عن الرؤساء الأميركيين : كيندي، نيسكون ،وأخيرا بوش، مع انه لم يترك الفرصة تمضي دون توجيهه النقد الضمني لسياسات بلاده، انطلاقا من مواقفه الفكرية الليبرالية واليسارية.
عربيا، نتذكر ضمن أفلام السيرة الذاتية، ما قدمه المخرج الراحل مصطفى العقاد، في فيلم "عمر المختار"، الذي رفع من مستوى سيرة المناضل الليبي، عمر المختار، إلى مصاف التأثير الذي يستحقه، مثلما نتذكر فيلم "الناصر صلاح الدين" الذي أخرجه يوسف شاهين، وإن بدا فيلما "قوميا" جاء متأثرا بصعود المد العروبوي والناصرية و"أمجادها".
"ديانا": شخصيتها المتمردة لا سيرتها التقليدية
قد يكون طبيب القلب البريطاني الباكستاني حسنات خان، الذي كان على علاقة عاطفية بأميرة ويلز الراحلة ديانا، محقا في النقد الذي وجهه للفيلم الأخير "ديانا" الذي يتناول بالتفاصيل الدقيقة فصول تلك العلاقة، وقوله ان الفيلم " يعرض صورة سيئة وغير حقيقية عنها"، لاسيما "الافتراضات التي يطرحها الفيلم بخصوص أن أقاربه كانوا ضد العلاقة"، فالطبيب حسنات خان يقول "كانت ديانا تروق لوالدي وجدتي وأقاربي ولم يعارضوا أبداً هذه العلاقة، كانوا راضين عنا والقرارات التي اتخذناها"، مؤكدا "هذا الأمر يعني أن هذا الفيلم ليس سوى تشويهاً لعلاقتنا أنا وديانا بالعائلة.
لكن ما فات خان، هو ان تركيز مخرج فيلم "ديانا" أوليفر هيرشبيجل، كان منصبّا على جانبين في شخصية الأميرة الراحلة، وهما : المسار الحياتي المستقل في حياتها بعد الانفصال عن ولي العهد ورفضها أي لقب ملكي بل لقب "أميرة القلوب" في إشارة إلى شعبيتها بين الناس، وشخصيتها المتمردة التي قادتها إلى علاقة عاطفية معلنة مع الطبيب الباكستاني أولا ورجل الأعمال المصري تاليا، في رد على شعورها بالإهانة والاحتقار اللذين سببتهما خيانة ولي العهد لها أثناء زواجهما.
وقد لا تكون الممثلة ناومي واتس Naomi Watts التي أدت دور الأميرة الراحلة تشبه ديانا كثيرا، إلا أنها اجتهدت كثيرا في تجسيد الشخصية الداخلية والمشاعر العاطفية والقلق والتوتر والتمرد الذي كانت عليه ديانا في عاميها الأخيرين، وهو ما تمكنت منه عبر أداء قوي ومميز في حساسيته الروحية.
صحيح ان ردود الفعل الشعبية ليست في صالح الفيلم، لاسيما ان المشاهدين ذهبوا لرؤية "أميرة القلوب" في سيرة متكاملة لها، إلا ان المخرج هيرشبيغل محق بقوله حول تلك الانتقادات اللاذعة التي وجهت للفيلم "كانت محزنة جدا، لكن حينما تصنع فيلما فإنك لا تفكر في ردود الفعل" التي جسدتها صحيفة "ديلي تليغراف" بالقول إنه "سيئ للغاية لدرجة غير مألوفة"، وصحيفة "ميرور" بقولها إنه "رديء وكئيب".
على الأرجح إن رد الفعل البريطاني "السلبي" عن فيلم "ديانا" هو في تركيزه "الإيجابي" على ملامح القلق والتوتر والتمرد في شخصية عامة، يفترض لها ان تكون "محافظة" وهو ما لم تكن عليه الأميرة الراحلة، التي يقول عنها المخرج "كانت أكثر الشخصيات التي حاولت تصويرها تعقيدا".
"جوبز" : العبقري في صورته حاقداً ومتعجرفاً!
في فيلم "جوبز" الذي يفترض تصويره قصة حياة المدير الفني السابق ومؤسس شركة "أبل" و المخترع الراحل ستيف جوبز، الذي عرض مؤخراً في دور السينما بالعالم، معالجة بائسة فنيا وحياتيا لحياة شخصية زاخرة بالمثل والقيم والتحولات النادرة. ومن هنا ليس غريبا ان يحظى الفيلم بانتقادات مخيبة لآمال صانعيه وحتى ممثليه.
فيلم "جوبز" الذي انتظره كثيرون في العالم، لا سيما انه يتحدث عن شخص غيّر حياتهم عبر " الايفون"، " الآي باد"، وغيرهما من وسائل الاتصالات التي غيرت الحياة المعاصرة، اهمل الكثير من الأحداث التاريخية المميزة للمخترع ستيف جوبز( الممثل) أشتون كوتشر الذي استهلك الكثير من الوقت وهو يمشي كي يعطي المشاهد دلالة على أن "جوبز كان مشغولا على الدوام ويفكر كثيرا"!
وانشغل الفيلم بفترة زمنية محددة من حياة جوبز، تمتد من بداية تأسيسه شركته والمصاعب التي عرفها في هذا الجانب وصولا إلى منتصف التسعينات من القرن الماضي، والهوس الذي كان عليه بالتفاصيل الصغيرة: يأكل الفواكه فقط ولا يستحم، فضلا عن تنكره لابنة من علاقة عاطفية مبكرة .
وفي حين حاول الممثل اشتون كوتشر في أدائه دور ستيف جوبز، يحاول جاهدا التركيز على طريقة جوبز المميزة في المشي الأقرب إلى التخبط، و ردود أفعاله الغاضبة وغير المتوازنة، إلا انه افتقد التلقائية والسلاسة في الأداء، فسقط في الكثير من التكلف و التصنع.
وقد يكون ستيف جوبز في حياته الشخصية الحقيقية على هذا النحو من " الحقد" و"العجرفة"، لكن الفيلم على افتراض انه كان "أمينا" في نقل هذه المشاعر والصفات الشخصية، لم يظهر ما الذي كانت تعنيه في سياق السيرة العلمية والابتكارية لصاحبها؟ وكيف ينتج صاحب هذه الشخصية "المتعجرفة وشبه العدوانية " كل هذه السلاسة من الابتكارات؟ التي تنصب على خدمة الإنسان في حياته اليومية، حتى وإن كانت الدوافع اقتصادية وتنافسا شرسا بين كبريات الشركات.
* نشرت في "المدى" البغدادية 2013/11/20 |