عمّان- علي عبد الأمير
احيانا تبدو المصائر الفردية قادرة على ان تكون ممثلة لمسارات اجتماعية وثقافية واسعة، والمصير الانساني الذي كان اسمه الممثل والمخرج في المسرح والتلفزيون والسينما، خليل شوقي، بدا قادرا على اختزال المسار الذي شكلته الدولة العراقية المعاصرة في تأسيسها الواعد، وصولا الى تفسخها سياسيا واجتماعيا وفكريا، فليس غريبا ان يولد صاحب الاثر الملتهب ذكاء وبراعة في فنون العراق الدرامية المعاصرة في العام 1924، مع ولادة دولته 1921 التي كانت واعدة في مشروعها لجهة الانفتاح على الحداثة والمعرفة والخروج من قيم الانغلاق الديني والعشائري، مثلما هو ليس غريبا ان يموت الرجل في المنفى، في وقت باتت فيه دولته المعاصرة تنازع انفاسها اثر عقود طويلة من القمع والحروب والحصارات والنزاعات الاهلية الدموية.
اتصالا بهذا المعنى، فالرائد خليل شوقي كان حاضرا في كل علامة تغيير حقيقية في الثقافة العراقية المعاصرة، هو من اوائل العاملين في المسرح، هو ايضا من اوائل العاملين في الجديد الذي عناه تلفزيون بغداد 1956 كوسيلة اتصال ثقافية حديثة وثورية، مثلما هو من اوائل الذين عملوا على نقل السينما العراقية من التقليد البليد للشاشة المصرية الى التعبير العميق عن جماليات المكان البغدادي وانسانه، وما فيلمه البارز الذي تولى اخراجه وحمل عنوان "الحارس" الا اشارة واضحة على نهج تعبيري بملامح وطنية عراقية، وإن بدا مقاربة لمنجز الواقعية الايطالية.
خليل شوقي احد بناة العراق المعاصر روحيا وفكريا، هو من جيل من البناة منح الحداثة ملامح محلية، فجعلها تبدو اصيلة مطواعة اجتماعيا، مثلما فعل: جواد سليم رسما ونحتا، السياب شعرا، غائب طعمة فرمان رواية، علي الوردي بحثا اجتماعيا، جميل بشير موسيقيا، محمد مكية معماريا، وغيرهم من الاباء المؤسسين الافذاذ.
وفقا لهذا الايقاع، احتفى مثقفون وفنانون عراقيون بالراحل شوقي، في "غاليري الاروفلي" بالعاصمة الاردنية، بعد اربعين يوما على وفاته في مقر اقامته بهولندا التي وصلها قبل نحو عشرين عاما، تاركا خلفه ارثا رفيعا في بلاده، فله الحضور العميق في ابرز اعمال الدراما قيمة فنية، بما جعله حقا، ممثلا من طراز خاص، بل ان تسميته "انتوني كوين العراقي" تبدو منسجمة مع فنان استطاع ان يجسد في سيرته، شخصيات تكاد تشكل في امتدادها العريض، كل ما يمكن ان يذهب اليه السلوك الانساني وفق مزيج من قدرة التقمص والوعي بالشخصيات جسديا ونفسيا الى جانب التلقائية والقدرة على الاقناع.
المخرج المسرحي والاكاديمي علي شبو رأى ان صاحب الدور البارز في مسرحية "بغداد الازل بين الجد والهزل"، خليل شوقي، "لم يكن فيلسوفاً ولم يكن متحذلقاً لانه كان واقعياً وشديد الالتصاق بما هو يومي في حياة بغداد وأهلها، ولكنه أيضاً تناول ذلك "اليوميّ" في أعماله الدرامية بمجسات جمالية رسمت في أذهاننا ووجداننا ذاكرة شفافة لبغداد، تلك المدينة التي سكنت خليل حتى رحيله".
من اليمين د علي شبو صاحب مبادرة الاحتفال باربعينية الراحل خليل شوقي
وعن بغداد، القيمة الفنية والتربوية، وكيف كونت منهما ثنائيا مهما في فنون الدراما الرفيعة ذوقيا وفكريا، تحدث
الممثل والكاتب الرائد يوسف العاني، عن رفيق مشواره في ابرز علامة للمسرح العراقي المعاصر: "فرقة المسرح الفني الحديث"، مثلما تحدث عنه ممثلا من طراز رفيع، المخرج السينمائي، محمد شكري جميل، والمخرج المميز في الدراما التلفزيونية العراقية، حسن حسني، والممثل جواد الشكرجي، وزميله كريم عواد، متوقفين عند ذلك الانسجام بين الوعي الفني الرفيع عند صاحب الحضور البارز في مسلسلي "الذئب وعيون المدينة" و"النسر وعيون المدينة"، وبين وعيه الفكري والانساني الذي جعله محط متابعات واشكال مراقبة من قبل مؤسسات النظام السابق، ما دفعه الى الرحيل عن البلاد والالتحاق بعدد من افراد عائلته الذين كانوا سبقوه في مغادرة البلاد اثر مجاهرتهم بمعارضة نهج الحزب الواحد والقمع والحروب، ومنهم ابنتاه الممثلتان مي وروناك، وابنه الممثل فارس، والاخر الموسيقي علي.
ولان الراحل خليل شوقي، كان مشروع حياة مجبولة على التجدد والتفتح، مشروعا ينتمي الى قيم رفيعة تعنيها الامال بحياة عادلة كريمة، لذا كان جميلا ان يبدو استذكاره، بلمسات فنية رقيقة، من نوع تخصيص كرسي على مسرح الحدث، وكأن صاحب الذكرى جالس كسيد مميز فيه، وكان كل متحدث يحمل وردة للغائب- الحاضر بعد الانتهاء من القاء كلمته، فيما انتهت الامسية الاستعادية بلمسة خاصة من مطرب المقام العراقي البارز، حسين الاعظمي، حين انشد قصيدتين تفيضان بالنجوى والاثر الروحي الصوفي، كانتا متوافقتين مع المعنى الذي عناه رحيل خليل شوقي في المنفى، الذي أوصى أن يدفن بهولندا كونه كان "يدرك جيداً أن وطنه طارد لمبدعيه احياء كانوا ام موتى" كما كتب اكثر من مسرحي ومثقف عراقي.
* متابعة صحافية للحدث الذي شهده غاليري الاورفلي بالعاصمة الاردنية في اواخر ايار 2015
|