علي عبد الأمير عجام* هو "نديمنا هذا المساء"... نديم الحنو والشغف والتوق والتجدد والابتكار والحفر على صخر مستحيلات دونما آخر. هو نديمنا مثلما هي نديمتنا الفكرة الخلاقة الواعدة التي كان عليها العراق قبل اكثر من نصف قرن.
احيانا تبدو المصائر الفردية قادرة على ان تكون ممثلة لمسارات اجتماعية وثقافية واسعة، والمصير الانساني الذي كان اسمه خليل شوقي، بدا لفرط المعيته وصدقيته قادرا على اختزال المسار الذي شكلته الدولة العراقية المعاصرة في تأسيسها الواعد وصولا الى تفسخها سياسيا واجتماعيا وفكريا، فليس غريبا ان يولد صاحب الاثر الملتهب ذكاء وبراعة في فنون العراق الدرامية المعاصرة، مع ولادة دولته التي كانت واعدة في مشروعها لجهة الانفتاح على الحداثة والمعرفة والخروج من قيم الانغلاق الديني والعشائري، مثلما هو ليس غريبا ان يموت الرجل في المنفى، في وقت باتت فيه دولته المعاصرة تنازع انفاسها اثر عقود طويلة من القمع والحروب والحصارات والنزاعات الاهلية الدموية، وانتهت من دولة مواطنة واعدة الى جمهورية مكونات طائفية وقومية تفتك بها قيم الانغلاق الديني والعشائري مثلما كانت عليه الحال ايام ولادته.
كرسي للراحل الحاضر
اتصالا بهذا المعنى، فالرائد خليل شوقي كان حاضرا في كل علامة تغيير حقيقية في الثقافة العراقية المعاصرة، هو من اوائل العاملين في المسرح حين كان ميدانا لقيم الجمال والعدل والخير، ومثلما كان الرجل بارومتر حيوية ثقافية عراقية، وعمودا في مبنى اسمه مسرح بغداد، صار شاهدا على تحول تلك الورشة المعرفية والجمالية الى مجرد مكب للنفايات كما هو اليوم. هو ايضا من اوائل العاملين في الجديد الذي عناه تلفزيون بغداد كوسيلة اتصال ثقافية حديثة وثورية، مثلما هو من اوائل الذين عملوا على نقل السينما العراقية من التقليد البليد للشاشة المصرية الى التعبير العميق عن جماليات المكان البغدادي وانسانه، وما فيلمه البارز الذي تولى اخراجه وحمل عنوان "الحارس" الا اشارة واضحة على نهج تعبيري بملامح وطنية عراقية وإن بدا مقاربة لمنجز الواقعية الايطالية. خليل شوقي احد بناة العراق المعاصر روحيا وفكريا، هو من جيل من البناة منح الحداثة ملامح محلية، فجعلها تبدو اصيلة مطواعة اجتماعيا، مثلما فعل: جواد سليم، السياب، غائب طعمة فرمان، علي الوردي، جميل بشير، محمد مكية وغيرهم من الاباء المؤسسين الافذاذ. صورة خليل شوقي تحيل إلى شخصية المثقف المديني، ابن الطبقة المتوسطة وممثل تطلعاتها الرفيعة في المعرفة والعدالة الاجتماعية، تلك الطبقة التي صارت هدفا لانظمة الضباط القتلة من رواد الانقلابات العسكرية التي نقلت المدينة من عمقها المعرفي الى استعراضات لقيم البداوة والريف والعشيرة ولاحقا الدين الفاسد والقاتل، وتحولت صورة مثقفين بناة من طراز شوقي وجيله الى صورة المثقف الحزبي المتزمت الغوغائي الدعائي التي ستفرخ لاحقا صورة المثقف الديني الطائفي العدواني التحريضي الفاسد. خليل شوقي مشروع حياة مجبولة على التجدد والتفتح، مشروع ينتمي الى قيم رفيعة تعنيها الامال بحياة عادلة كريمة، لذا كان طبيعيا ان لا مطرح له في مكان اكتظ بالموت والموتى، من هنا كان تشييعه الرمزي في بغداد بائسا، ذلك ان الموتى لايكترثون عادة بوافد جديد الى مقبرة فسيحة، فأوصى أن يدفن بهولندا حيث عاش العقدين الاخيرين من عمره كونه يدرك جيداً أن وطنه طارد لمبدعيه احياء كانوا ام موتى.
* كلمة القيت في اربعينية الفنان الراحل التي احياها عدد من الفنانين والمثقفين العراقيين بغاليري الاورفلي بالعاصمة الاردنية عمّان.. اواخر ايار مايو 2015
|