قراءة في ديوان "يدان تشيران لفكرة الألم" للشاعر علي عبد الأمير

تاريخ النشر       16/11/2014 06:00 AM


سهيل نجم*
     كي تكون القراءة بحثاً عن المعاني والدلالات المستترة ومحاولة للوصول إلى الاحتمال (الأقرب) لما يقوله النَص المتميز, نسعى فيما يلي إلى قراءة نصوص من ديوان الشاعر علي عبد الأمير والذي عنوانه "يدان تشيران لفكرة الألم", وتطمع هذه القراءة إلى أن تكون نَصاً قرائياً من حيث أنها تحاول تفجير البنية الاشارية التي يكتنف عليها النَص الإبداعي لتنشئ نَصاً أخراً وليس تعليقاً خارجياً أو تقييماً معيارياً, فهي تحاول, أي القراءة, مستفيدة من المفردات والصور التي في النصوص فيما تحيله من ثيمات, إلى أن تكمل ما لم تقله النصوص, أو القصائد بشكل مباشر, بل أوحت به إلينا أو هكذا تراءى لنا, إن النَص مفتوح لتأويلات متعددة, تهيمن فيه الشعرية وتضم تحت جلدها الشفيف افتراضات لعوالم متداخلة تستحثها العلاقات اللغوية المتشابكة والتي تحيلنا بدورها إلى تشابكات صورية غالباً ما تكون مثل سهام إشارة تدلنا إلى مساحات ومَواطن التوتر الشديدة في ما نحسبه ونهجسه من إنزياحات في العلاقات بين عناصر النَص.
     وتمنح نصوص الشاعر علي عبد الأمير إمكانية غير قليلة لسبر غور اللغة في مستوياتها المتعددة وفي ثراءها في شمول زوايا الفكر في تجلياته من تأمل وهواجس وعاطفة تحيل القارئ إلى ساحة الشعر الموحي بإخلاص الشاعر لفنه وحياته وتاريخه المُعاش والمُفترض, أي ما يقترحه بوصفه رائياً ومشيراً (لاحظ عنوان الديوان) لتاريخ آخر غير شعري يدخل من مجال التجاوز لما هو منجز.


     إن من بين ما تمتاز به القصائد هنا هي قدرتها على أن تكون مفككة ظاهرياً وثمة في العمق ما يحث على إعادة التركيب التي يقوم بها المتلقي المنتج للقراءة.
     في القصيدة الأولى "أنا العائد ... بدأت غيابي للتو" نلاحظ أن في التقابل ما بين العودة والغياب يجري نهر الشاعر حيث تنسكب اللغة منطلقة لتلم كل هواجسه ومعاناته وحيرته وتساؤلاته ومن ثم إدراكه للوقت الذي تهدده قِوى الغياب:

وقتنا كم هو فائض

     الذي يتملك الشاعر هو الإحساس العميق بفنه من ناحية, ولا فنية الواقع, من ناحية أخرى, وتتجلى المعاناة في سعيه لتحريف هذا الواقع الفوضوي الصاخب إلى شكل فني يمتلك شرعية الوقوف إزاء التاريخ في فضح وسائل سرية غالباً ما تكون هي السبب في تحويل الجمال والبراءة إلى بربرية تكتسح كل حياة:

أكنت تدرك شأن الفوضى حين تسرق أغصان القنب
وتجدلها إلى حبال تتضخم نحو مجد الأنشوطة؟
     في هذه القصيدة تكون عناصر الذكرى والغياب والمآثر والتوابيت والمآتم والتضرع والشجن والسجن والحزن والسكون ... حشداً متوتراً يغطي حفلة الذعر التي تصخب فيها الأنوثة وهي واقعة تحت سنابك الكابوس إذ يواصل "الجرس أحلامه في الرنين", ثمة إذن ما يشير إلى حالية مفرغة من الفعل ولا تملك إلا الحلم, من هنا تأتي الطاقة التي يشحنها الشاعر في لغته وأدواتها ليعبئنا بالفعالية الباحثة للتجاوز لما هو بعد الحلم حيث الفعل المتمثل بالرنين, وتوفيق الشاعر في اختيار فعل الرنين دون غيره في هذه الحال, بعيد المدى, لأنه محمل بدلالات التحذير والفعل المنظم والمنغم وحيث يحقق الشاعر به جمع إحساسات سمعية وبصرية في صورة مركبة.
     وفي قصيدة "منقطع عن المحبة", ثمة احتفالية لغوية شعرية مكثفة تدخلنا في ذات الشاعر وتكويناتها التي يحرص الشاعر على أن لا تفارقه, منها انشغاله وإقراره بخمود الأصابع وقلقه بشأن فعل الانقطاع وحرصه على التواصل بين تكويناته من جهة والعالم من حوله:

لا أجالس إلا قريني
وهو يسورني بأصابعه في صحن الرماد

     ونلاحظ أن الشاعر لا يرتكن إلى التحذلق والتزويق, ولا حتى للارتكاز إلى صور الطبيعة كي يدخلنا إلى ما يقلقه, بل إنه يستخدم عناصر الحياة اليومية من باص مدرسي وقفازات وشرائط الدانتيلا و الأسيجة والسابلة والمرآب والمقتنيات والرصيف ... كل هذه العناصر مع تركيباتها والعلاقات الجديدة التي يدخلها الشاعر فيها تحيلنا إلى المعين الذي يغرف منه الشاعر صوره الجديدة والمتفردة:

لا أحفل بشأن القفازات التي تدلت على ساعدي
سوى ما يخص موسيقى ليلتي
وعنايتي بالفراشات التي رفعت إلى الضوء
شرائط الدانتيلا

     ليس ثمة هنا تشبيهات أو استعارات وما إلى ذلك من عناصر البلاغة التي اعتاد الشعراء توظيفها لسوق المعاني التي يرومون توصيلها إلى القارئ ... ولكن ثمة صوراً مستمدة من الحياة الصاخبة لتحمل الدلالات الموحية كما يفعل هاملت حين يكشف لنا فداحة الاستخفاف بموت أبيه حين يقول:

بأقل من شهر, ولم يكد يبلى الحذاء
الذي سارت به خلف جنازة أبي المسكين

أو قوله:
اللحم الذي قُدم في العزاء
قسوة ببرود على موائد الزفاف

     إنه إذن, مثل هاملت, يرى ويعرف ولا تبدو له الأشياء كما يقول هاملت أيضاً: إنني أعرف ولا تبدو لي الأشياء:

I know not seems

فيقول علي عبد الأمير:

لقد تعثرت كثيراً بعلب أيام مستعملة
لم أقفز أسيجة أقلعت عن ترك مسافة للأبواب
ظلت تهدي السابلة
أسهماً متضادة
لا أحفل باكتظاظ مرآبي
ولا بندرة مراكبي
غير أن ما أشقاني
ضمني إلى مقتنيات بائدة ....

     وفي قصيدة "شاهد على الغيوم" تحاول اللغة الاتساع لتطويق الحياة كي تمدنا بعد ذلك بلا محدودية التلقي لهذه الحياة وبالتالي أيضاً لا محدودية المعرفة الناتجة عن تلك الخبرة المزعومة فنخسر البراءة لنقع أسرى التساؤل والحيرة:

بين أفكار بطيئة وأجساد سريعة
الظلال, تلك الخبايا التي أسمها الطفولة
بها, بأردانها الباردة الرحيبة
سنرجم تلك الوشايات التي أسمها
خبرة الحياة
ستغرقنا المعرفة
وتضعنا في صخب الأسئلة

     هنا تشير اللغة وتوحي معتمدة إظهار العمق في المعنى دون مواربة الغموض المنغلق الذي اعتدنا مواجهته عند كتّاب القصيدة الجديدة, هنا يكون:

السؤال اقترب من الرعب بعد أن قارب البراعم
السؤال يتأكد في البياض لذة السواد
ويحرض في الوضوح ..
وحيث يكون الوضوح يعلن الشاعر كشف الالتباس عما هو مخفي أو مغطى ويقودنا الشاعر إليه بهاجسه النافذ, ألا وهو:

إدراك الأنامل لجسد الظلام

     في المقطع الأول من قصيدة "بهو المسرة" تكون الولادة (التاريخ الجديد) في وسط صاخب ويكون التساؤل عما يقنع النفس الحائرة القلقة الباحثة عن مصيرها مجندة جيوش "النوايا المسبقة المنطلقة في خط الوضوح الشمسي", في المقاطع الثلاثة التالية ثمة كناية ممتدة عما يكابده الشاعر من خيبة رسمت من خلال رسم شعري للطبيعة ... تطابق المخيلة هنا بين الرؤيا والصورة حيث يتم الإيحاء بالدلالات التي تستمد حضورها من حركية الأشياء وعلاقاتها المتفاعلة تفاعلاً غير جزافي:

من فرط شجنها
استفاقت الجنادب على جدول واهن
انهمكت الطرائد بوجلها
والغروب عاد مسرعاً
برتل الاشنات ...

     وفي "خوذة ... لهذا الرحيل" ثمة روحية كبيرة تجتاز المحن وتصور لنا بهيأة هيولي شعرية تتشكل بتفرد يشعر إزائها القارئ بعد القراءة الرابعة او الخامسة بفيوض من التعبير عن خراب هائل تنسل منه الذات الطريدة "حرة كالضباب", الذات هنا رغم ما تلاقيه من تداع كبير تنفض عنها فوضى الخسائر وتخرج ثابتة لتحقق التعادل المذهل بين العنف المضاد في حرق الظلام بصمت وبين رعايتها لعشبة في هدوء حيث الرقة والشفافية المتناهيتين:

الفتى – حر كضباب منهك وحيد
غادرني في الأفق الشاحب والغرنوق العالق بقلبي أسيان
لن أهرع بوثبة وخلجة تنسل من كاحلي
سأظل أرعى الهدوء في عشبة
وأحرق بصمت, قبة الظلام ...

     وفي القصيدة التي تحمل عنواناً فرعياً "مكنسة لحروف الوقت" يناور الشاعر ويحتال على اللغة ليمرر فكرته الساعية لفضح الخلل وكشفه ويستخدم الشاعر في ذلك كنايات واضحة الدلالة, رغم أنها لا تبدو كذلك في الظاهر, والقصيدة تحمل في عمقها نقداً لـ "نحن" الجماعة الذين يضع الشاعر نفسه ناطقاً باسمهم ومشاركاً لهم في الاعتراف بالخطأ الذي اقترفوه لتكون نهايتهم فجائعية, فهكذا يحدد الشاعر لنا ويختصر مأساتنا:

السذج المنحدرون من أكاذيبنا
هيمنوا على الأمسية النادرة
وسفحت البهجة عذريتها خلف براءتهم
السذج القابعون في أيامنا
يتقنوا من هباء جيلنا
فانحدروا نحو شوارع الزجاج وأقاموا
مغسلة للوقت

     فهم صنيعتـ(نا) إذن, (نحن) الذين أجلسناهم على عرش وقتنا فتمادوا بعد أن يتقنوا من هشاشة هذا الجيل فاستباحوا وقته بضجيج عرباتهم المدججة بالظلام والغبار.
     لا شك أن الشاعر قد اجتهد في استقراء واقعه وأدرك ماهية الأدوات الخاصة به والتي بإمكانه من خلالها أن يقوم بهذا الاستقراء وهو من هنا قد أنجز لنا ما ليس بالقليل.
    

* شاعر وناقد ومترجم عراقي



 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM