ف . خ*
ما يمكن رصده بسهولة في قصائد الشعراء العراقيين الذين نضجت تجاربهم – فترة الثمانينيات, هو الانهماك بمفهوم الرفض والتلبس به إضافة إلى الفجائعية التي تظهر كصدى عفوي لحالة "اليأس" المتسربة في "الذات" والتي تتجلى في مفردات القصائد ومناخاتها, حالتا اليأس والرفض هاتان وما نتج وما ينتج عنهما من أجواء متوترة وحالة شد وطرد لا تقودان في جميع مظاهرهما إلا إلى نوع من الارتداد الداخلي نحو النفس والانغلاق عليها, إذ يصير الخارج في موقف كهذا كل ما يمثل خطراً وقمعاً أو شكلاً من أشكال اللا معنى والخواء, لذلك سادت في أصوات شعراء هذه المرحلة الهواجس العدمية التي تقود إلى ارتكاب الوعي وإنفلاشه. أمام حالة إنفلاش الوعي والارتداد نحو الذات, وجد هؤلاء الشعراء أنفسهم مأخوذين برغبة عنيفة في التوغل والبحث عن مناطق أكثر أمناً وهدوءاً, ورأت في "الوزن إذ الشعري" أحد تجسدات حضور التاريخ الذي تحاول الهروب منه, الأمر الذي لا تسمح به وقفة سريعة كهذه, لمعاينة الخلفيات النفسية والتقنية التي سرعت في إفشاء هذا النوع من الكتابة, لكن تبقى محاولة الإمساك بالقدرة الهائلة,, اللغوية والتخييلية التي يمنحها هذا الشكل المتحرر للولوج أو التداخل مع الأجناس الكتابية الأخرى, هي المبرر الأشد حضوراً, إذ بدا مريحاً لهم تعليل الأمر بأن الواقع وامتداداته الخفية وما يحمله من تشويش وكوارث وسياسات غامضة وتسلسل أحداث لا منطقي أوسع من أن يمكن تأطيره والحديث عنه ضمن كتابة تخضع لنسق موسيقي خارجي ... محكم ومنطقي, انطلاقاً من الاعتقاد بأن كل نظام هو سلطة بالضرورة.
جذور في الآتي
هذه المعطيات قادت أغلب شعراء هذا الجيل إلى الاندفاع نحو سواحل لا تجد لها جذوراً في الماضي بل في كل ما هو آت, في القادم المجهول والمنسوج من محض خيالات, وإذا ما ارتكزت إلى شيء من التاريخ, فإنها تجد ضالتها في كل ما هو مهمّش ومقموع في التراث الشفاهي والشعبي ... في الحركات السرية الرافضة والكتب الصفراء, والشاعر علي عبد الأمير من أبرز الأصوات الشعرية في هذا الجيل, الذي تجسد أسلوبه بشكل واضح في مجموعته الشعرية الأولى "يدان تشيران لفكرة الألم" العام 1993, وتأتي مجموعته الثانية "خذ الأناشيد, ثناء لغيابك" متوجة لتجربته التي تندرج في مجمل مواصفات الكتابة الشعرية التي وسمت شعراء هذه الفترة. إن شعرية علي عبد الأمير هي شعرية "رؤيا" – مضامين – حيث يوليهما اهتماماً كبيراً وإن كان على حساب الشكل الشعري, والقصائد عموماً كما اعتدناهما في مجموعته الأولى هادئة متزنة لا تجنح نحو الغرابة والتهويل وتخلو من الاستعارات البعيدة, فهي تعتمد نسقاً يركز على الاستخدام اليومي للغة التي تبتعد عن الإيقاع العالي وتعتمد في أغلبها البناء التسلسلي للفكرة, حيث تتمحور القصيدة حول بداية ووسط ونهاية, وهو رغم استفادته كثيراً من لغة العلم المنطقية في بعض تركيباته مثل "موجات متعاقبة", "نظائر العسل", "مثيرة غباراً محلياً", أو وجدانية صارخة إلا أنها في مجملها تظل شواهد مبتسرة ونادرة في ثنايا الديوان.
محاورة الصمت
في التوجه العام للقصائد ينحاز الشاعر لمفهوم الذاكرة كعالم بديل أولاً, ولموضوعة "الغياب" ثانياً, حيث تشيع هذه المفردات في مناخ القصائد, وإن جردة بسيطة لعناوينها ترينا إلى أي مدى يضع الشاعر ثقله في هذه المفردات المركبة والبسيطة في الوقت ذاته, فمثلاً نقرأ "أنا العائد بدأت غيابي, فترة لا مكان لها, أغيب عن بيتي, ينبغي أن أنسى" وغيرها, والتي تلح على ظاهرة "الانسحاب" من المشهد الحياتي ما دام في أفضل حالاته لا يمثل سوى الخراب أو الموت في عرف الشاعر, من دون أن يبتعد عن توصيف أثير لديه يرى في مفهومة "الغياب" الشكل الأبهى للحضور ... لما يهيئه من إمكان التأمل والمشاهدة عن بعد وقراءة الوقائع ببصيرة الرائي الحكيم المجرد من الانفعال.
صورة المقال الموقع بالحروف الاولى ف خ
وحين تتوجه إلى متون القصائد تتأكد المفردة أكثر لتولد شعوراً غريباً بالتماهي مع كل ما لا يملك إقامة حوار فعلي معه, صور تتداخل لتعزز المفهوم, في أنساق متباينة تبعاً لشدة الموقف, فهو يتطلع دائماً إلى "طيور تخفق كثيراً لكنها لا تصل" قبل أن يصير "أكثر تماثلاً مع مهمة النوافذ, في توثيق الغياب" لينتهي إلى قراره الأخير مع جليسه الزمن "أغيب في ثماره البسيطة" ومن ثم لا يجد الباحث عنه سوى محض غياب ينمو في الزمن المتوقف حيث "لا زمن في عربة تقودها أحصة عمياء وحوذي ميت" معززاً ذلك كله بسطوة "النسيان" الذي يجهد الشاعر في فرضه ليكون تمام المحو الذي يشرع على أساسه بداية جديدة, لا ترتكز إلى الراهن المخضب بإيقاع الحروب والفوضى, بل إلى المناطق المتوهجة النابعة من الذاكرة المستقبلية. ولهذا فالغياب, لا يمارس فاعليته كمظهر سلبي لدى الشاعر, بل تأسيساً للفعل ومحاوره مع "الصمت" الذي هو "لغة بليغة" حيث يصير الكلام بمثابة "ضباب صقيل" أو "انحدار الهاوية" ليكون نقيضاً موضوعياً للكارثة يخفف به إيقاعها الصاخب, ينجح الشاعر في أداء "الرؤيا" بشكل يقربه من "موسيقى الذات" وهو حين يرمي شباكه في "ذاكرة الوهم" مستلهماً الطاقة التي يوفرها الشكل النثري, يتمكن من أن يهبنا أناشيده المشتملة على استذكاراته ومشاهده الخاصة, مؤكداً غيابه عن المشهد الحياتي وحضوره في الشعر ... ببساطة لا تخلو من غموض معبر ...
*صحيفة النهار البيروتية، ملحق "نهار الكتب" 16-4-1997
|