علي عبد الأمير لـ (الزمان): كتابتي في نقد الموسيقى ليست اقل أهمية من قصائدي

تاريخ النشر       14/10/2014 06:00 AM


حاوره: حليم سلمان*
ينشط الشاعر والكاتب علي عبد الأمير في اتجاه ثقافي لم يعتبره أقل أهمية من قصائده أو دراساته النقدية للعديد من التجارب الشعرية العراقية والعربية، وهو النقد الموسيقي الذي كان قد انشغل فيه منذ أوائل الثمانينيات عبر صفحات مجلة "فنون" البغدادية ثم واصله في مجلة "ألف باء" وصحيفة "القادسية"عراقيا ووصحف ومجلات عربية بينها "اليوم السابع" الباريسية. كما صدر له كتاب "فصول في الموسيقى المعاصرة" عام 1990 ببغداد، حتى توقف عن ذلك النشاط لفترة بعد حرب الخليج الثانية 1991 ليعاوده مع وصوله إلى العاصمة الأردنية عبر ما يكتبه في صحيفة "الرأي" الأردنية منذ عام 1995 إضافة إلى صحف "الشرق الأوسط" ثم "الحياة" و"اليوم" منذ عام 1997. عن حال الموسيقى العربية اليوم والأشكال الغنائية السائدة التقينا الناقد الموسيقي علي عبد الأمير الذي يشغل موقع عضو هيئة تحرير مجلة "الموسيقى العربية" والمحرر الثقافي في جريدة "الرأي" الأردنية، وكان معه هذا الحوار.

علي عبد الأمير: كاميرا شمس الدين كاكائي

* لنبدأ الحوار في صلب تجربتك في مجال النقد الموسيقي فقد اتخذت شكلاً أو قالباً مغايراً في مجال تقديم ونقد العرض الموسيقي، فما هو السبب في ابتعادك عن القالب القديم في مجال الموسيقى؟

 - تركزت غالبية تجارب النقد الموسيقي في الوطن العربي على جهد كريم كان يقدمه موسيقيون إلى القارئ العادي الذي لم يكن في حقيقة الأمر يفقه في مصطلحات وأساسيات الموسيقى كبناء علمي وهي ما درجت على اعتمادها تلك التجارب فبدت المحاولات النقدية وكأنها تخاطب جمهوراً مختصاً وضيفاً هو جمهور الموسيقى والمشتغلين بها تحديداً, والحال ذاته كنا نجده في برامج موسيقية في الإذاعة و التلفزة كانت ترطن بالمقامات وأجزائها وكيف انتقل اللحن من مقام إلى آخر ودرجاتهما أيضاً ... أنا ذهبت في متابعتي النقدية للموسيقى إلى جانب كانت تتضمنه مقالات الناقد المصري الراحل كمال النجمي والناقد العراقي الراحل سعاد الهرمزي ... وهو جانب يخص تقريب العمل الموسيقي والغنائي إلى المتذوق العادي (القارئ) عبر التعريف بمفاتيح تساعد في هذه المهمة, دون أن أنسى الأثر العميق لملاحظات نقدية تخص الموسيقى, كان الشاعر العراقي فوزي كريم أثناء وجوده في بغداد ينوه لي عنها وما كان يكتبه الناقد والباحث الفذ علي الشوك, إضافة إلى عشرات المقالات باللغة الإنجليزية في مجالات موسيقية وفنية تخصص حيزاً لافتاً للموسيقى وبجميع أشكالها, والتي كنت أتابع فيها الانتقال في مفهوم النقد الموسيقي من الانقضاض على العمل الموسيقي بوفرة من بيانات التحليل المقامي إلى قراءة جمالية تقارب السوسيولوجيا ومناهج معرفية دون أن تنسى جوهر العمل الموسيقي كالتعريف بشكله وما يتطلبه هذا الشكل من جهد العازفين وطبيعة الآلات المستخدمة في ترجمته وتوضيح دلالاته وكل ما يتصل بإنتاجه, هكذا وصلت إلى مقالة في نقد الموسيقى كنت أريد من خلالها أن يشاركني القارئ بهجتي بعمل موسيقي حقيقي قادر على هز المشاعر بعمق أو أن يرافقني في الإشارة إلى علامات الضجيج وهي تنتشر في أعمال موسيقية وغنائية تضخ لدوافع تجارية قائمة على الربح السريع وإن كان يتم عبر تهديم ذائقة اجتماعية.
وابتعادي عن ما يقصده السؤال "القالب القديم في النقد الموسيقي" ينطلق من حق القارئ في المعرفة والحرص على نقل الموسيقى والغناء من حقل "التسلية" إلى حقل ثقافي عميق, كما كنت حريصاً وخلال سنوات كتابتي للنقد الموسيقي منذ عام 1981 في مجلة "فنون" البغدادية بمؤازرة كريمة من الناقد محمد الجزائري الذي كان يشغل موقع رئيس التحرير في المجلة, على إدخال النقد السوسيولوجي في قراءتي للأعمال الموسيقية انطلاقاً من قناعتي بأن الموسيقى والغناء تحديداً, أحد المؤشرات الدالة على عصرها ومن هنا جاءت فكرة كتابي المقبل "في سوسيولوجيا الأغنية", وإذا كان لا بد من الإشارة إلى تأثير كتابة نقدية على "ابتعادي عن القالب القديم في مجال النقد الموسيقي" فأنا أجد نفسي مشدوداً إلى تأثير الناقد اللبناني الراحل نزار مروة الذي قرأ التجارب الموسيقية اللبنانية المعاصرة وفق عنصرين مترابطين: الفن والوعي الاجتماعي.

* إن عملية الجمع بين أصالة الموسيقية العربية, والحفاظ على هويتها العربية, وبين جعلها تنطق بلغة العصر, هذه المعادلة صعبة للغاية, كيف ينظر الناقد الموسيقي لهذا الموضوع؟

- إذا كان المقصود بـ "لغة العصر" أن تعزف المقطوعات الموسيقية العربية وفق أساليب الأداء الإليكتروني للآلات الموسيقية, فإن "الأصالة" ستغيب تماماً, أما المقصود بتلك اللغة, أن نعيد قراءة الموروث الغنائي والموسيقي العربي وفق مناهج بحث وجمع وتبويب معاصرة, فإن أصالة الموسيقى والحفاظ على هويتها العربية ممكنة ويسيرة ومنهجية أيضاً, هنا في هذا الصدد لا بد من التنويه إلى أن الغرب لم يطرح سؤال "لغة العصر" حين تعلق الأمر بموروثه الموسيقي, فظلت الأوركسترا السيمفوني تقدم موتسارت وبيتهوفن وديبوسي وهايدن وباخ كما هم دون إضافات زاعقة تحت شعار "المعاصرة" أو "لغة العصر".
     نعم ثمة معالجات "معاصرة" كأن تتم الاستفادة من تقنيات العصر المتقدمة في التسجيل وأساليب العرض الموسيقي المتقن (اعتمادا على تقنيات الصوت) وهذه تخرج الموروث الموسيقي إلى فضاءات تأثير أرحب لكن شريطة عدم تدخلها في بنية الموروث وجوهره الفني, أما إذا وجدت أعمال مكتوبة وفق رؤية معاصرة وضمن أساليب آلية جديدة (موسيقى العصر الحديث) وتجارب (الموسيقى الإليكترونية) فهذه تدرس وفق معطياتها الخاصة بعيداً عن سؤال: الأصالة والمعاصرة.

* هناك علاقة بين الموسيقى العربية والموسيقى الأوروبية وموسيقى الشعوب الأخرى, وهناك تجارب ومحاولات لإدخال الآلات الموسيقية "التخت الشرقي" في الفرق السيمفونية, كيف ينظر الناقد علي عبد الأمير لإمكانية إدخال أو تقديم مقطوعات موسيقية بطابع غربي؟

-هناك قرون من الاتصال بين أوروبا والعالم العربي, أنتجت بالتأكيد علاقة بين الموسيقى العربية والأوروبية, وتأخذ هذه العلاقة في فترات طويلة أشكال الاستجابة الموضوعية القائمة على حوار غني بينهما, فنجد أعمالاً موسيقية غربية "تأثرت" بالموسيقى الشرقية والعربية تحديداً, ولكنها ظلت أقرب إلى النمطية إلا في حالات نادرة, بينما نجد عربياً تأثر سلبياً يصل أحياناً حد هيمنة النموذج الغربي على الموسيقى العربية, فالموسيقيون العرب الدارسون في الغرب يعودون إلى بلدانهم ليكتبوا أما أعمالاً فيها روحية عربية ومحلية ضمن أشكال غربية صرفة مثل "السيمفونية" أو "الكونشرتو" أو أعمالاً تطرح فكرة صياغة الموروث الغنائي والموسيقي بحسب "الهارموني" الغربي, كما إن علاقة الموسيقى العربية المعاصرة بالغرب أصبحت "استحواذية" بالكامل فاختفت في الفرقة الموسيقية العربية آلاتها, لتصبح (غربية) في معظمها, وتراجعت مساحة الفرق الموسيقية العربية السليمة البناء والعرض الفني, لتصبح أقرب إلى المأثور الذي يلاقيه المستمعون بشيء من الحنين الذي يصاحب عادة ذكريات الماضي.
غير أن علاقة سليمة بين موسيقانا وموسيقى الغرب لن تنشأ بغير وجود نموذج موسيقي عربي سليم يبعد عن إرثه كل ما هو هجين ومن دون الانقطاع عن أساليب الأداء والعرض التي تنتظم في الغرب, هنا لا بد من ذكر نموذجين عراقيين للتأثر الايجابي بموسيقى الغرب وهما: الشريف محيي الدين حيدر الذي وضع أسساً سليمة للموسيقى العربية والعراقية منذ تأسيسه معهد الفنون الجميلة عام 1934 ببغداد, بدت متأثرة بالأساليب الغربية, كذلك الراحل الكبير جميل بشير الذي أدخل الموسيقى العراقية والعربية في حوار غني مع آلات موسيقية غربية, غير إنه لم يسقط في فخ التأثر التقليدي بأنغامها, وجعل الآلات العربية وأنغامها (العود) على وجه الخصوص حاضرة بقوة في أعمال عديدة كتبها ضمن شكل "القطعة".
وعربياً يمكننا تسمية تجربة الأخوين رحباني كمقاربة عربية للموسيقى الغربية وإن كانت الملامح الغربية تطغى عليها أحياناً, تلك الملامح التي حاول وليد غلمية استعارتها "مقياساً للتطور" كما يؤكد دائماً مظهراً في ذلك شكلاً من التأثر بالغرب قائماً على النقل المباشر الماحي لكل ملمح خاص.
في الوقت الحاضر وضمن قضية العلاقة بين الموسيقى العربية والأوروبية نجد تجارب موسيقية لافتة تعكس فهماً عميقاً لهذه القضية,, أكان ذلك بتقديم الأعمال الموسيقية العربية بصحبة الأوركسترا أم باتصال آلات عربية وشرقية مع أخرى غربية في عروض موسيقية حرة, فإلى جانب تجربة مارسيل خليفة في "المتتالية الأندلسية" وتجربة نصير شمة في تقديم أعمال ضمن قالب السماعي اعتماداً على وجود العود والأوركسترا, نجد أعمالاً تثير البهجة حقاً عند سامعها لجهة اتصاله مع الموسيقى الأوروبية دونما شعور بالنقص, ودون الاستهانة بروحيتها العربية كما في تجربة اللبناني شربل روحانا والعراقي خالد محمد علي (يعزفان أعمالهما على العود بمصاحبة آلات غربية), دون أن نغفل تجارب عربية هنا وهناك تسعى في هذا الاتجاه.

* موضوع تقديم التراث الغنائي العربي والتي تتنازعها عدة اتجاهات, البعض يريد المحافظة على التراث كما وصفه أصحابه قديماً, والبعض الآخر يريد تقديمه مع تطويره بإدخال الفرق الموسيقية الكبيرة والهارموني, أين تقف من هذه الاتجاهات؟

-الموروث الغنائي لن يكون كذلك إذا ما تعرض شكله الموسيقي إلى أي تغيير ولن يُعد "موروثاً" غير أن هذا لا يمنع الاجتهاد في تقديمه سواء كان ذلك بتوزيع موسيقاه وفق الفرقة الموسيقية العربية المعاصرة (هي في حقيقتها خليط من آلات شرقية وغربية) أم وفق الأوركسترا السيمفونية بعد ادخال البناء الهارموني.
وهذا (الاجتهاد) في تقديم الموروث يظل مقترحاً شخصياً لمن يرى فيه شكلاً "معاصراً" أو غير ذلك على أن يظل في هذا الاتجاه ودون اعتباره وسيلة وحيدة لما يسمى بـ "إحياء التراث" ونقله إلى "المعاصرة" كما يحلو لبعض التجارب أن تطلق على محاولاتها من تسميات فالشكل الأصلي والأنغام الأولى للعمل الغنائي الموروث هي التي تمنحه حقيقة وجوهر وجوده وليس محاولات تقديمه وفق أشكال تبدو في غالبها مخالفة لفكرة "الموروث" كتراكم وتقليد روحي متأصل.

*الفرق الموسيقية العربية, حتى الآن لم تأخذ قالباً أو شكلاً ثانياً, كما هو الحال في الفرق السيمفونية الغربية, فترى هنالك اختلافاً بين فرقة وأخرى في عدد الآلات الموسيقية المستخدمة وعدد العازفين وأساليب العزف, لماذا؟

-القالب الموسيقي العربي الصميم لا يمكن إلا أن ينتمي لأشكال "السماعي", "البشرف" و "اللونغا" وهذه تمنحنا صفة الموسيقى العربية وتحقق أن توفر المؤلف النابه, وجود النغم العربي لأنها أشكال محسوبة على جوهر الموسيقى العربية القائم على امتداد أفقي تزخرفه نغمات ربع الصوت, بينما الذي يقدمه – كما ذهب السؤال – بعض المؤلفين الموسيقيين العرب من أعمال مكتوبة ضمن قوالب السيمفونية أو السوناتا أو الكونشرتو, فهو لا يمكن اعتباره (موسيقى عربية) لاعتماده الهارموني والتركيب المميزين للموسيقى الغربية رغم "إقحام" بعض الألحان والجمل الموسيقية العربية أحياناً. 
وكما أشرت في معرض إجابتي السابقة, فإن تقديم الحان عربية وفق هذه القوالب الغربية يظل "مقترحاً شخصياً" يحمل فهم المؤلف الخاص للشكل الموسيقي ولا يمكن اعتباره "تطويعاً" للموسيقى العربية لقوالب وأشكال غربية كما يحلو لأصحاب هذا الاتجاه أن يصفوه.

*ما هو دور النقد الموسيقي في مسألة توجيه المستمع العربي نحو الاستماع للموسيقى وتوجيه الموسيقى العربية لهذا المستمع؟

-في هذا الصدد وضمن أعمال الاجتماع الثالث عشر للمجمع العربي للموسيقى (جامعة الدول العربية) الذي عُقد العام الماضي في عمّان, قدمت ورقة بحث تناولت فيها دور النقد الموسيقي انطلاقاً من دور الإعلام ووسائله في توجيه الأسماع, وهو دور أراه مؤثراً ومهماً, غير أنه بالمقابل يتعرض للتهميش والإقصاء في أحيان كثيرة.
ويبدو أن شبكة الإنتاج الغنائي والموسيقي العربي الرديء في عدد من الدول العربية وخارجها أحكمت الطوق تماماً فهي في الوقت الذي سيطرت فيه على الانتاج وبدأت بتحديد ملامحه وفق أولوياتها التجارية, أوصلت نفوذها إلى وسائل الإعلام (المرئية والمسموعة) بالدرجة الأولى, وجعلت حوارات الدلع النسوي مع المطربين وإعجاب المقدمين بفساتين ورقصات الفتيات المشاركات في تصوير "فيديو كليب" أية أغنية, "مؤشرات نقدية" بل وأحكام تروج من خلال التكرار والإعادة لبرامج غنائية وموسيقية, مقاييس في كيفية تناول الظاهرة الموسيقية والغنائية العربية.
هكذا اسقط في يد الإعلام المكتوب وهو الآخر في غالبيته يعتبر الاهتمام بالموسيقى والغناء ليس نقداً ولا مراجعة لشريط أو حفل موسيقي بل في تداول أخبار المطربين والمطربات وحوارات تدور حول فضائح وسرقات وحملات تشهير, أما النقد الموسيقي بوصفه جهداً مهماً وقراءات لفنية العمل الغنائي والموسيقي فلا وجود له إلا فيما ندر, نتيجة تلك الضغوط التي تمارسها شبكة الإنتاج لأشرطة التخريب الذوقي.
هنا لا يمكن إلا التنويه بمبادرة المجمع العربي للموسيقى (جامعة الدول العربية) بإصداره مجلة موسيقية رصينة تحترم المتذوق والقارئ وتنفتح على قطاعات واسعة في التلقي وتفتح أبوابها لأقلام النقاد وآرائهم, وكانت الأعداد الأربعة الأولى من مجلة "الموسيقى العربية" في حلتها الجديدة تحمل أكثر من إشارة على دور يمكن أن تلعبه المجلة في مد يد العون للأذواق الرصينة وللوصول إلى منطقة يمكن فيها تلقي وفهم العمل الموسيقي والغنائي العربي بشكل دقيق ومدروس.
وبالرغم من سيطرة شركات التخريب الذوقي على الأسماع العربية غير أننا لا يمكن إلا أن نشير لجهد النقاد والكتّاب: عيد عبد الغني طليس وحبيب يونس (لبنان) وعادل الهاشمي وأسعد محمد علي (العراق) و د. سعد الله آغا القلعة (سوريا) الذي انتقل في كشوفاته عن الأصالة في النغم العربي من الكتابة إلى الصورة عبر برامجه التلفزيونية، وهو جهد يكتسب أهميته من خلال مواجهته التضليل والتشويه الذي تتعرض له الذائقة العربية عبر التسطيح الغنائي السائد كذلك في كشفه عن خصائص الجودة في أعمال تسعى إلى إثبات وجودها برغم جعجعة الرداءة.

 

* نشرت في "الزمان" العدد 420 الإثنين 6-9-1999
    



 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM