عمّان- علي عبد الأمير
في غاليري"رواق البلقاء"في مدينة الفحيص بضواحي العاصمة الأدرنية، بدا النحاس المتأكسد في أعمال التشكيلي العراقي وسام زكو، أكثر من مجرد حفر في المعدن، بل هو حفر لملامح العصر وعلاماته بحثاً عن سر إنساني يبدو مأزوماً أو محاصراً بمصير سيزيفي، يحمل أثقال العيش الباهظ والآثام.
وفي ما يبدو معتاداً أن تجد ظل جياكوميتي في غالبية العروض لأعمال النحت العراقي، إن بطريقة التقليد الأعمى أو بـ"الاستلهام"، فلا هذا ولا ذاك حاضر في معرض زكو مواليد 1955، بل ما يثبت هنا هو انشغال حقيقي بالفكرة ووسائل عرضها، من دون ضجيج ولا جلبة إعلام أو علاقات عامة، كالتي تسود في الترويج لأعمال فنانين كثر.
ويبدو أن هذا متصل بحكاية زكو الذي يؤثر الصمت ويعمل بهدوء وروية، منذ أكثر من ثلاثة عقود. منحوتات زكو الذي تخرّج في أكاديمية الفنون ببغداد، مأسورة في مقاربة الموضوع والفكرة، مثلما هي مشغولة بإبقاء وهج مقترحها الجمالي. خُذ"مسلّته"المثقوبة بفراغات كأنها مضروبة بقذائف، فتحيلك إلى"المسلة الفرعونية"أو حتى"نُصُب الدستور الأميركي"وسط واشنطن، لكنها تبدو مسلّة عصرها بامتيازها، وثقوبها إيجازاً للعصر وتحولاته الرهيبة، السياسية والعسكرية، وفي جانبها القاسي حصراً، من قذائف تتوجه نحو قيم الحق والعدل، تلك التي تحيل إليها المسلّة في بعدها التاريخي الأثري أو المعاصر الدستوري.
وثمة سلسلة منحوتات تكاد تختزن الأنين الإنساني والتعب الذي يهد جبالاً بحق، تعب الإنسان والأثقال تحيط به وتكاد توقف قدرته على الحركة. إنه سيزيف معاصر، يجرّ الأرض وكأنه ينقذها من مصير ســــتنتهي إليه، فيكاد يجرها إلى مكان آمن حتى وإن بدت مثلومة من جهة أو متلقيةً لضربة قاصمة من جهة أخرى. وإذ يبدو الإنسان هنا، في صورة الفعل الإيجابي المنقذ، فإنه يبدو، في منحوتة أخرى، في صورة النقيض، إذ يكون هو من يطعن الأرض بأزاميله وفؤوسه الحادة، في إشارة لا تخفى إلى إنسان الحروب والتلوث والضجيج.
في المعرض الشخصي الثامن لوسام زكو له أكثر من عشرة معارض مشتركة في العراق والأردن ولبنان والصين وروسيا، تنهض صورة الإنسان بتحولاته، ظالماً ومظلوماً، مثلما هي صورة عصره في منحوتات عن مكابدات الوجود، بهجة وحزناً، صبراً وجزعاً، في تمثيل فني لأساطير دونتها ذاكرة بلاده، وصولاً إلى مدونات الإرث الإنساني بأكمله. مدوّنات الوعي الشقي التي تأتي هذه المرة من فنان لا يتشدق كثيراً، ولم تعرفه صالونات الإعلام المحجوزة سلفاً للأسماء الرنانة والأحكام النقدية الجاهزة.
تبدو أعمال وسام زكو، شهقات مجروحة وإن نهضت من شقوق نحاس. يجعل المعدن وسيلة تعبير عن العصر وإطلالة جمالية عليه في آن واحد. ولم لا؟ فبلاده في إرثها الرافديني ذخيرة كبرى، وثمة آلاف المنحوتات التي كانت مرايا عصرها توثيقاً وفكرة، مثلما تطلّ، وإن كانت مثلومة بفعل العاديات من سرقات وتخريب، كمعطى جمالي يسأل السؤال ذاته الذي انشغل به زكو: ما الإنسان؟ ما آلامه... وما آثامه؟
* نشرت في "الحياة" 25-1-2013 |