علي عبد الأمير بين الغياب والتواري

تاريخ النشر       20/09/2014 06:00 AM


حسن ناظم*

    بعد أن كتب علي عبد الأمير شعراً محضه طابع الأناشيد لوطن غائب في مجموعته الشعرية "خذ الأناشيد ثناءً لغيابك" (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1996)، يعود اليوم ليكتب شيئاً آخر يصوّت بالنغمة نفسها ولكن بهاجس جديد، هاجس يتحوّل فيه الثناء إلى أسف وربما يأس مرير وخيبة وإحباط في مجموعته "بلاد تتوارى" (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2005).
غياب الوطن في عنوان المجموعة الأولى صار توارياً في عنوان الثانية، والتلميح إليه بضمير الخطاب (غيابك) في الأولى صار تصريحاً به في الثانية "بلاد تتوارى". وفرق الهاجس هذا هو ما حفّزني على كتابة هذه السطور الوجيزة، محاولاً تسليط الضوء على التحوّل الذي تشهده رؤية الشاعر وتجربته في الحياة والشعر. بالنسبة لعلي عبد الأمير، يكون الغياب حيث يتحقق النفي. وهكذا صار المنفي يكتب أناشيد مديح في الغائب أيام عاش الشاعر في منفاه. أما حين تحرر الغائب من أسره، وحضر بين يديّ الشاعر، وجده الأخير يتوارى شيئاً فشيئاً خلف إرث ثقيل من الحرب والدم والبغضاء والحقد. تُوّج ذلك بمأساة شخصية راح ضحيتها أخو الشاعر، الكاتب المعروف الشهيد قاسم عبد الأمير عجام، حين أطلق عليه إرهابيون رصاصات غادرة. العيش في عمّان حيث الغائب على مقربة، وحيث هاجس العودة إلى الوطن بعد الخلاص من الديكتاتورية، فرض وضعاً للنصوص الشعرية مختلفاً عمّا هو الحال والشاعر داخل الوطن. سجّل علي عبد الأمير دخوله إلى بغداد مع طلائع الداخلين إليها بعد سقوط صدام ونظامه، فأخذ يرقبُ مآسيه الجديدة، بعد انقضاء القديمة وزوالها، بعين ترى أحلامها تتهاوى في بلاد جديدة بعد حقب الطغيان، هذه البلاد الجديدة هي "بلاد تتوارى" مُخليةً الطريق لبلاد أخرى غيرها. وهذا الوضع هو ما عبّرت عنه جملة من القصائد المكتوبة بعد التاسع من نيسان 2003 تحديداً:
كانت هناك حياة وإن كانت في رواسب الحروب
كانت هناك يده وهو سعيد بالعشب على قميصه
كانت هناك لذة وإن كانت القفز بين الفخاخ
كانت هناك مدينة
كان هناك ورد يزهر على أيدينا
الآن لا ورد في الجوار
لا يد امرأة ترق ولا غد يبتسم ("بلاد تتوارى"، ص36)
هذا هو تواري البلاد متمثلاً في الحياة التي غابت حتى أن الشاعر الذي حلم طويلاً وبحنين طاغٍ بالعودة إلى وطن خالٍ من أدران الظلم، صار يقبل بقسمة ضيزى متمثلة بالحياة في ظلّ رواسب الحروب. بل هو يستطيع أن يقتنص اللذة في القفز بين الفخاخ المهلكة. تُراه إذن يُبطن حنيناً لحياة الخطر؟ أم تُراه أدمن حياة الظلم والمنفى؟ أهي شائبة اليائس المحبَط الذي حلم بفردوس مفقود أبداً؟ لا إجابات عن هذه الأسئلة في القصائد التي كتبها علي عبد الأمير بعد سقوط نظام صدام. هناك فقط تصوير لإحباطه بصورة البلاد الجديدة: فوضى تضرب في كلّ مكان. وليس الشاعر بدعاً في ذلك، إذ يصحّ هذا على بشر قهرتهم السلطة الوحشية البائدة، فصار يظنون أن الفردوس المفقود سيعود كسابق عهده حالما يُستردّ من سارقه.
رغم أن العراقيين جميعاً لا عهد لهم سابقاً بأيّ فردوس، فهم أبناء الدكتاتوريات العتيدة منذ فجر التاريخ، وجنائنهم المعلّقة لم تكن سوى رغبة دكتاتورية. علي عبد الأمير إذن يطالب بحق مطعون فيه، ويبني في الخيال بغداده الخاصة كمدينة للسلام، ومدينة السلام تسمية لم تكن لولا أنها كانت منطلقاً لحرب المسلمين في جهات العالم كافة. زحفت رؤية الشاعر بهذا الصدد على كلّ مظهر من مظاهر الحياة، بل زحفت لتكسح الحبّ وتصوره على أنه "حبّ كأنه النوم في سرير إرهابيّ" في قصيدة تحمل العنوان نفسه:
هذا ليس حباً
إنه مرّ، علقم ، رغم أنه حب بطعم الشيكولا
هذا ليس صباح العاشقين
إنه مكائد وتلفونات مغلقة ومكالمات "فائتة"
هذا ليس وداع اليد المرهفة
إنه أنفاس متوترة لواهمين بالحرية
يصطفون بإذلال عند "جك بوينت"
وينظرون إلى قمصانهم البيض المكوية
يرميها جندي مذعور وجد ضالته
في قهرعاشقين
هذا ليس حباً
إنه النوم في سرير إرهابي ("بلاد تتوارى"، ص80)
 


يوحي وهم الحرية هذا بأن علي عبد الأمير يوجّه لكفاحه ضد النظام السابق في صفوف المعارضة العراقية ضربة غير متروية. الشاعر هنا يمارس الاحتجاج، حتى ليبدو أن ليس في نيته أن يواصل الدرب الذي اختاره بدءاً. ومن ناحية معينة، تمارس هذه الإيحاءات ضغطاً، وتوقع في الإرباك بين المعرفة بتاريخ الشاعر وما يضمّنه من دلالات التخلي، حتى يبدو الشاعر هنا كمن نقضت غزلها بعد العناء. هذا ما توحي به النصوص في الأقل، فلغة الإحباط تهيمن على النصوص المكتوبة بعد التاسع من نيسان 2003، وهواجس اختيار المنفى ثانية لها جذور قوية في هذه النصوص، وهو ما صار إليه الشاعر حين رحل إلى أميركا تاركاً وراءه البلاد تتوارى بحسب رؤيته.
في المجموعة الشعرية الأولى، ثمة ثناء على الشعر (أنظر قصيدة "اليائس ... في الطريق المحاذي لأحلامه..."، ص69، وهو نصّ  يطري نصّاً لعبد الرحمن طهمازي الشاعر النقيّ في البيئة الملوّثة)، وفي الثانية هجاء للشاعر الملوّث في كل البيئات (قصيدة "إلى شاعر عراقي"، ص12). كانت زفرة ظلّ ها علي عبد الأمير لصيقاً بهمّ خيانة شاعر صديق. ورغم أنه لم يجرّد الخيانة لصالح فكرتها، أو رمزيتها، ولم يمحضها حتى بُعد المواربة والتلميح، ورغم أنه أثقل النصّ بتفصيلات حدثها، يبيّن هذا النصّ رغبة الهجاء المعتملة والقذع المغلَّف بلغة تبدو مستكينة وحانية، لكنها موجعة. وفي الثناء على الشعر في الأولى وهجو الشاعر في الثانية معنى مما نرمي إليه من اليأس والمرارة.
في المجموعة الأولى إذن محاولة لاقتناص أحاسيس مفرحة وتسجيلها، محاولة لإضفاء طابع وديع على العيش:
الصيف يحنو على الضفاف
الأيام ذاتها المكتفية بقميصها الخفيف
لا فرق ...
قلب المدينة ضيّق والنهر يسمع سقوطنا في مجراه". (ص66)
وثمة أمثلة كثيرة على ذلك. أما في الثانية اليائسة، فأحلام محطّمة، وثمة أيضاً أمثلة كثيرة على ذلك. وإليكم بعض أحلامه في قصيدة "حلم ويحلم حتى غاب عنّا تماماً" مثلاً:
"... يحلم فيثير الشبهات
يقرأ فيحلم أكثر
يرى فيطوف به الحلم
ينام ، فيموت في الحلم
يحلم فيما الوقت كوابيس
يحلم فيما الوقت نباح والناس طرائد
يحلم فيما المكان غبار
يحلم بالحدائق فيما منسقو الورود يدقون النعوش
... يحلم بمكان لا تكون موسيقاه أفواه الموتى
يحلم بغائبين، فيجيشون
الطين في جباههم
يرتجفون مع الدم البارد
في ضباب الفجر الأخير للحرب ... (74-75)
هذه صورة للبلاد رسمها علي عبد الأمير في العام 2003. وما بين الصورتين يختفي تحوّل في موقف الشاعر من البلاد بين غيابها وهو في المنفى وتواريها وهو وسط المعمعة. لقد شعرتُ أن ما كتبه الشاعر بعد عودته إلى بغداد مرهون، على الأغلب، بالقنوط. تتسابق النصوص في قنوطها! ولعل الذين عرفوا علي عبد الأمير عن قرب، وخبروا نشاطه المتنوع أيام المنفى، كانوا يتوقعون منه "أناشيد" أخرى في الثناء، أو حتى ترنيمات للفتح، أو في الأقل الأقل بشائر تستجيب لنشوة الانتصار. غير أنه خيّب التوقعات، وعكف على خيبة داخلية وقنوط، يجلّيهما ويمعن في الكشف من خلالهما عن ذاته الكسيرة. وما من أحد يمكن أن يتغافل عن التأثير المباشر لاستشهاد أخيه في تشكيل رؤيته هذه، ولا يمكن التغافل أيضاً عن التأثير الحاسم للعنف الوحشي الذي شهده منذ اللحظة الأولى لعودته، ومعايشته الخطر والتهديد.
يمكن أن يكون هذا التحوّل تنويعاً على موقفه نفسه، ومن ثمّ يجب تخفيف وسمه بالتحوّل. إذ لا يمكن بأيّ حال من الأحوال إدراج أشعاره المكتوبة انطلاقاً من هذا الموقف ضمن تلك الأشعار، وحتى الكتابات الأدبية الأخرى، التي تتباكى على بلاد حكمها الطغاة، تلك الكتابات التي لم يجد بعضهم حرجاً في تسميتها "شعر المقاومة". وما تلك الكتابات سوى تبريرات لأوضاع عاشها كتّابها في كنف الدكتاتورية منتفعين من عطاياها. وليس لدى علي عبد الأمير ما يبرّره من كتابات حاضره وماضيه. وإذا رغبنا في اعتباره تنويعاً على الموقف نفسه، فإن سؤالاً مهماً تثيره السمة السلبية لقنوط أشعاره، وركونها إلى قاع اليأس، حدّ أن المحترق لا ينبئ بقيامة من رماده.
   قد تبدو هذه السطور موجهات معينة لقراءة أشعار علي عبد الأمير بعد الحدث الكبير بالعراق، أي بعد إعلان تحرّره وبدء تأسيسه دولةً ديمقراطية وقانونية، غير أن قصارى ما تودّ أن تلفت الأنظار إليه هو هذا التحوّل الذي اللافت للنظر في مجموعته الجديدة "بلاد تتوارى". وإني لآمل ألاّ يصار إلى اعتبار ملاحظاتي هذه شجباً لتغير الشاعر تحت ضربات القدر. على العكس، جزء من إنسانية الشاعر أن يتحوّل، أن يئنّ، أن يشعر بالذنب، بل حتى أن يغيّر قناعاته الراسخة. وعلي عبد الأمير، كما عرفتُه شاعراً وإنساناً، واحد من الذين لا يخدعون أنفسهم، ولا يستجيبون لسوى وجدانهم الأصيل.
 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*حسن ناظم: ناقد عراقي يقيم في استراليا.
hasannadhim@hotmail.com   
 المقالة نشرت اولا في العام 2005 ثم تضمنها كتابه لاحقا الصادر عن دار "المدى" والذي حمل عنوان "النص والحياة"


 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM