من النادر ان تكون هناك انتخابات " محلية" قد حظيت باهتمام اميركي من قبل مثلما شهدته انتخابات اقليم كردستان في تموز الماضي. ولم يكن الاهتمام قراءات معمقة لمحللين وخبراء وصحافيين بل ان حتى الادارة الديمقراطية وجدت فيها مثالا مهما للمسار الايجابي الذي تمضي اليه الاوضاع في العراق. انها "انتخابات نهاية شراكة الحزبين الرئيسيين للحياة السياسية والعامة في كردستان العراق" هكذا كتب معلق اميركي. وكتب آخر انها انتخابات صعود "التغيير" في اشارة الى بروز قائمة نيشروان مصطفى القيادي الكردي المنشق عن حزب الطالباني، فيما ذهبت غالبية القراءات الاميركية الى ان الانتخابات تشكل مرحلة جديدة من مراحل اكتشاف كردستان العراق لذاتها وسط تجاذبات حادة بين مظاهر الاعمار من جهة والحديث عن الفساد من جهة اخرى، وبين المحافظة على قيم محلية من ثقافة وتقاليد اجتماعية من جهة والنوافذ المشرعة على رياح الحداثة العاصفة من جهة اخرى.
وفي حين ذهبت القراءات الى ان لا مفاجأة في احتفاظ زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود البارزاني بمنصبه رئيسا للاقليم، الا انها توقفت عند تراجع شعبيته عند " مستويات غير مسبوقة" في حدود مناطق السليمانية التي تدين بالولاء الى زعامة الطالباني. وبالنسبة للاخير فان المحللين الاميركيين يرون ان نتائج الانتخابات النيابية في اقليم كردستان هي " مفاجاة غير سارة" بالنسبة للقيادات التاريخية في كردستان وبخاصة لزعيم الاتحاد الوطني الكردستاني ورئيس الجمهورية جلال الطالباني الذي قالت صحيفة "واشنطن بوست" انه بات يواجه دعوات كثيرة من داخل حزبه لاعادة بناء الحزب والدولة في اقليم كردستان وفق مؤشرات صعود زعيم لائحة " التغيير" نوشروان مصطفى الذي قالت صحيفة "نيويورك تايمز" بانه قد تحول الى "لاعب بارز" الى جانب القوتين الاساسيتين اللتين يتزعمهما الطالباني والبارزاني. واشار معلقون وكتاب اميركيون الى ان نتائج الانتخابات تشكل شعورا عاما في اقليم كردستان بوجود "نوع من التحول السياسي" داخل البرلمان الكردستاني المقبل وهو ما سيؤثر في الاقليم والعراق بشكل عام. وفيما رأى صحفيون اميركيون ان عدد المقاعد التي يمكن ان تحصل عليها "قائمة التغيير" ستكون مقياسا للتغيير في البرلمان ، الا انهم اعتبروا حصول "قائمة التغيير" على أكثر من 20 مقعدا سيكون نصرا للمعارضة واحتجاجا شعبيا على اسس التقاسم الحزبية والعشائرية للسيطرة على الحياة في كردستان. وفيما ابرزت صحف اميركية كبيرة ان الساعين الى التغيير في اقليم كردستان لا يريدون تغيير الوجوه والأشخاص وحسب بل يريدون تغيير النظام السياسي ، وانهاء سيطرة الأحزاب السياسية على الحياة العامة، الا انها ابرزت ايضا ردود القادة الكرد لجهة ترحيبهم بالنتائج حتى وان جاءت مخالفة لرغباتهم، حين شددوا على ان ذلك انتصار للديمقراطية والحياة الجديدة في كردستان. وركزت القراءات الاميركية على قضايا كانت في مركز المشهد الانتخابي في كردستان لجهة التأكيد على ما يشغل المواطن في كردستان العراق من قضايا تتعلق بـ"المساءلة شبه الغائبة عن ممارسات الحزبين الرئيسين، وتحديدا عبر التعيينات في الوظائف الحكومية وغياب الشفافية عن صفقات بمليارات الدولارات في مؤشر على استشراء الفساد"، فضلا عن الخلاف مع الحكومة الاتحادية في بغداد حول الحدود المتنازع عليها بين الاكراد والعرب في العراق وقانون تقاسم عائدات النفط وادارة البلاد. وفيما نقلت " نيويورك تايمز" عن القيادي السابق في الاتحاد الوطني الكردستاني وزعيم " قائمة التغيير" نوشروان مصطفى قوله بان تقدم " قائمة التغيير" الى موقع القوة الثالثة في الاقليم بانه " سيشكل انهيار الصفقة الطويلة التي حكمت استئثار الحزبين الرئيسين بالسلطة "، الا انها شارت في وقت لاحق الى ما يشبه الرأي السائد في السليمانية بانه وعلى الرغم من كل الخطاب الإصلاحي لقائمة " التغيير" الا ان زعيمها "قبل تبرعات كبيرة من سياسيين سابقين مشتبه بتورطهم في الفساد" كما انها لفتت الى ما وصفتها " حكايات" عن دعم وفره له الشيعة في العراق الذين يقودون الحكومة المركزية ، والتي يتهمها العديد من الاكراد بانها "عازمة على زعزعة الاستقرار في المنطقة للسيطرة على ثرواتها النفطية".
انها انتخابات اكتشاف كردستان العراق لذاتها المتحركة وسط نقائض ومفارقات لا تنتهي: مظاهر التدين والدعوات عبر المآذن الى الصلاة، الى جانب مشاهدة المواد الإباحية في الهواتف المحمولة. اشارات الحرية المقامة على بقايا معتقلات وسجون نظام صدام. الداعوون الى التغيير متهمون ايضا بالفساد. هذه مجموعة مشاهد توردها صحيفة "نيويورك تايمز" في مقال حول كردستان التي كشفتها الانتخابات وكم هي مليئة بالتناقضات. لكن المقال وان كان تابع بعض العمليات غير السلمية التي طالت الداعين الى التغيير الا انه توقف عند تغير المزاج العام من العنف الى اسئلة الغضب والشك، منوها بان لو كانت الانتخابات اجريت قبل بضع سنوات وجاءت بنتائج اليوم لكانت هناك بالتأكيد اضطرابات واسعة النطاق. انه نوع من النصر، هذا ما يمكن لمعظم الكرد العاديين ان يشتركوا فيه، قدر محاولتهم اكتشاف ذواتهم المتوزعة بين متابعة تلفزيونية لمسلسل عن مقاتلي الميليشيا الكردية "البشمركة" وبرنامج المسابقات الغنائية "كردستار" وهو النسخة الكردية من برنامج "أمريكان أيدول" الشهير.
* مادة مكتوبة لمجلة "الاسبوعية" التي كنت اراسلها من واشنطن باسم "علي الشمري" لكنها لم تنشر بحسب قرار رئيس التحرير محمد عبد الجبار الشبوط! |