في العام 1986 اغلقت مجلة "فنون" البغدادية، وهي الدارة العامرة بمحبة رئيس تحريرها الاستاذ الناقد محمد الجزائري، والذي فتح لي ابوابها مشرعة كي اكتب بانتظام مقالات في نقد الفنون وبخاصة الموسيقى الغربية المعاصرة.. لانتقل الى مجلة "الف باء" عبر صداقة وثقة مع الناقد السينمائي الاستاذ رضا الطيار... وهناك كان اللقاء الحي الاول لاحد اكبر الصحافيين العراقيين الاستاذ والصديق الحميم لاحقا: سهيل سامي نادر الذي تعلمت منه في سنتين، مبادىء اساسية في الكتابة الصحافية، بل كيف يكون الصحافي دؤوبا ومنشغلا بعمله حد الاخلاص والتفاني.
سهيل سامي نادر (كاميرا علي عبد الامير)
تغربت وتشظت ارواح البلاد، فالتقيت بابي ياسر العزيز في عمّان اثناء عملي في النشاط الثقافي والصحافي المعارض لنظام صدام حسين، ووجدت احد اكثر نقاد الفن العراقيين دربة وبراعة، واحد انبل اهل الصحافي في بلادنا، وقد صار اكثر توترا، واكثر عذابا، ووجدت في حديثي معه العام 1998، لا نبرة اليأس وحسب، بل نشيده التام، كأن الذي كان عليه حديثه، هو النذير الذي لم اتوقف عنده، ولم افهمه لجهة انه سيصبح المآل الرهيب الذي ستنتهي اليه حال البلاد. في 19 نيسان 2003 ، هرعت الى شارع المتنبي للقاء الاصدقاء الاحبة، لاسيما ان نحو عقد من السنوات صار غيابي عن بغداد، ومن بين من التقيتهم بشوق في "الشابندر" كان سهيل سامي نادر، بحديث تتسارع فيه القضايا والتأويلات والتوقعات والتساؤلات . كان حديثه الثاني بعد خمس سنوات من الاول، يغرف من بئر اليأس ذاته وان بدا مختلفا في ايقاعه، فالرجل كان يشير الى خطأ لا يغتفر كان يتم تأسيسه ضمن عملية ازاحة صدام، خطأ الانقضاض على مؤسسات الدولة العراقية وهدمها، ولكن في ايام الصخب ، لا احد يسمع صوت العقل. ومرة اخرى تجمعنا، عمّان وتحديدا اواخر العام 2008، وهذا المرة بطريقة مختلفة، فصاحب رواية "التل" كان وصل العاصمة الاردنية مقيما، فيما كنت ازورها لفترة قصيرة هي الاولى لي بعد مغادرتها للاقامة والعمل في واشنطن. وفي احاديثنا كنا ننتقل من راهن العراق السياسي وتفحص الدور الاميركي فيه، الى الكتابة العراقية وصولا الى حديث لا يمل ودائما عن "الصديق الذي لا يخون": الموسيقى. وفي كل مرة كنا ازور عمان قبل ان انتقل للاقامة فيها مجددا، كان اللقاء بسهيل سامي نادر طقسا خاصا اجد نفسي فيه اكثر روية وتمهلا ودقة، كنت بعد سنوات طويلة من الدروس الاولى، اعيد التعلم منه واتقرب اليه بتهذيب يستحقه. وما زاد الثقة والمحبة بيننا هو ان حبيبتي واميرة حياتي الان، كانت وجدت فيه وقبل ان التقيها، اكثر من قلب حان واكثر من لمسة رعاية انسانية وفكرية، ما جعل معرفتنا تشتبك في اتجاهات من الود والثقة والعرفان. احتفت العاصمة الدانماركية بسهيل سامي نادر، فيما اوصدت بغداد ابوابها بوجهه، ورفض "العراق الديمقراطي" ايفاءه حتى حقوقه التقاعدية، فغادر الى كوبنهاغن قبل اكثر من عام على اجنحة من محبة الروائية دنى غالي والباحث المعماري والكاتب البارع د خالد السلطاني، وكنت صحبة حبيبتي نطرق دائما على اقليمه البارد باصوات المحبة والاشواق الدافئة. عاد الينا في عمّان قبل نحو شهرين، لنحتفي به اكثر من مرة، ودائما بمناسبات ثقافية ونقدية فنية، حتى انني اشعر بزهو خاص حين اقنعته بحوار متلفز، فهو الرافض الدائم لاي تعليق عبر الصحافة التلفزيونية، وكان فيه مثلما عرفته انسانا مرهفا من طراز خاص، ومفكرا عميقا بنبرة لا تشترى في عالم الصخب الذي يسود اليوم. قبل يومين، اتسع بيتنا، لنحتفي بسهيل سامي نادر وهو يستعد لمشوار جديد من رحلة المجهول نحو الشمال الاوروبي، وصحبة اصدقاء رائعين وعلى وقع قلوبهم الرحيمة، انشدنا معا اغنية محبة خاصة، تليق بـ"النبيل العراقي" و"شيخ اليائسين".
|