ويقول المخرج والناقد السينمائي الشاب بشار كاظم لـ"المونيتور" إن "عدد خرّيجي قسم السينما في العراق في خلال سنة واحدة يتراوح ما بين ستين وسبعين طالباً"، موضحاً أن "عدد الخرّيجين لا يخلق بالضرورة حراكاً سينمائياً. فطبيعة التدريس أكاديميّة كلاسيكيّة تفتقر إلى الجانب العملي ومواكبة التطوّرات التكنولوجيّة، وبذلك تنعدم الكوادر الفنيّة القادرة على صناعة فيلم سينمائي".
حقائق قاسية
هذه الحقائق القاسية تقابلها حقائق حيويّة تؤكّد على أهميّة العروض السينمائيّة في تشكيل مصادر الثقافة المعاصرة في العراق. فآخر العروض اللافتة للسينما الأميركيّة قبل غزو الرئيس العراقي الراحل صدّام حسين للكويت في العام 1990، كان فيلم "باتمان" (الرجل الوطواط) الذي تزامن عرضه الأول في صالة "سينما بابل" في شارع السعدون في قلب بغداد الاجتماعي والثقافي مع عروضه في مختلف عواصم العالم. وقد اعتُبِر ذلك مؤشراً على أن السينما الأميركيّة حتى بجديدها كانت حاضرة وتجذب اهتمام كثيرين من متابعي هوليوود في العراق.ومع غزو النظام العراقي السابق للكويت وفرض عقوبات على البلاد عُرفت بأنها الأقسى في تاريخ منظمة الأمم المتّحدة منذ تأسيسها، أصبحت دور العرض السينمائيّة عاجزة عن استيراد أفلام جديدة.
وفي الأيام الأولى التي تلت سقوط نظام الرئيس صدّام حسين، توقّع كثيرون أن تسود الثقافة الأميركيّة البلاد. لكن في ما يبدو مفارقة كليّة، عَرف "العراق الجديد" لاحقاً حرباً بلا هوادة ضدّ كلّ أشكال الحداثة في الثقافة والفنون والفكر والعلوم، وذلك لصالح قيم أصوليّة دينيّة متشدّدة جاءت انعكاساً لمن يمثلها في النخب السياسيّة الحاكمة. وفي خلال السنوات التي تلت العام 2003، أغلقت صالات السينما وانطفأت أنوار شاشاتها، ومثلها أغلقت لا بل أحرقت أحياناً مسارح أغلب المحافظات في المناطق العربيّة، فيما طال النسف محال بيع أشرطة وأسطوانات الموسيقى والفيديو.
اليوم، ما من صالات حقيقيّة للسينما في بغداد ولا في البصرة ثاني أكبر مدينة في البلاد ولا في الموصل التي صارت ما بعد العام 2003 نهباً للتطرّف الديني والعرقي. كذلك ما من عروض هوليووديّة في "العراق الأميركي" إلا تلك التي توفّرها قنوات عربيّة وأميركيّة يمكن التقاط بثّها في المنطقة.
صحيح أن ما من أمر حكومي عراقي صدر بمنع العروض الفنيّة الأميركيّة والغربيّة عموماً، إلا أن الحكومة لا تعرض عبر القنوات التي تسيطر عليها أي مادة سينمائيّة أو موسيقيّة غربيّة، فيما تتكفّل إلى جانب عشرات القنوات التي تسيطر عليها الأحزاب الدينيّة الحاكمة والمتنفّذة عبر ميليشياتها ببثّ ثقافة تجعل النغم الموسيقي الجميل والعروض السينمائيّة الرفيعة أمراً يقع في خانة المحرّمات حتى بغياب أمر حكومي رسمي.
أي دراسة للسينما في العراق؟
تمنح جامعات بغداد وبابل وديالى شهادات في دراسة السينما وفنونها. ويبدو قسم الفنون السينمائيّة والتلفزيونيّة في كليّة الفنون الجميلة في جامعة بغداد الأعرق في هذا المجال. فهو تأسّس ملحقاً بقسم الفنون المسرحيّة في خلال العام الدراسي 1973-1974. وفي بداية العام الدراسي 1981-1982، افتتح فرع الإذاعة والتلفزيون وكان الآخر ملحقاً بقسم الفنون المسرحيّة مثلما الحال في فرع السينما. وفي نهاية السنة الدراسيّة تلك تمّ دمج فرعَي "السينما" و"الإذاعة والتلفزيون" ليشكلا "قسم الفنون السمعيّة والمرئيّة" بإدارة المخرج والأكاديمي الراحل جعفر علي.
ويهدف قسم الفنون السمعيّة والمرئيّة إلى "إشاعة الثقافة السينمائيّة والتلفزيونيّة والإذاعيّة في المجتمع"، و"رفد المؤسّسات الثقافيّة والإعلاميّة بأطر علميّة متخصّصة في مجالات السينما والتلفزيون والإذاعة"، و"تقديم المشورة العلميّة والثقافيّة في مجال الاختصاص لدوائر الدولة والجهات الثقافيّة العامة والخاصة"، و"إعداد كوادر علميّة وأكاديميّة متخصّصة في مجال الدراما السينمائيّة والتلفزيونيّة والإذاعيّة".
لكن ما يقوله المخرج والناقد السينمائي الشاب بشار كاظم في حديثه إلى "المونيتور"، يكشف "لجوء عدد كبير من الطلاب إلى الدراسة في كليات ومعاهد الفنون حيث يتمّ قبولهم على الرغم من ضعف نتائج تحصيلهم الدراسي في الثانويّة العامة. وبذلك تبدو الدراسة من أجل إكمال المرحلة الجامعيّة، على حساب الموهبة والكفاءة".
وإلى جانب ضعف المستوى الدراسي لفنون السينما، يشير كاظم إلى أن "ما يجعل وجود هذه الأعداد من متابعي دراسة السينما بلا قيمة حقيقيّة هو عدم وجود مؤسّسات داعمة للنشاطات السينمائيّة".
"المولات" فسحة للعروض السينمائيّة
ومع الانفتاح الاقتصادي والاجتماعي الذي بدأت بغداد وبعض المدن العراقيّة تعيشه، تحوّلت المراكز التجاريّة الكبيرة أو ما يُعرف بـ"المولات" إلى فسحة للعروض السينمائيّة. وقد أشارت إدارة السينما العراقيّة إلى افتتاح فرع آخر لها في أحد "مولات" مدينة إربيل في إقليم كردستان العراق.
ويفيد موقع "دنانير" الاقتصادي أن "فرع السينما العراقيّة في رويال مول في إربيل يتألّف من خمس صالات، ثلاث منها تتّسع لثمانين شخصاً في حين تصل سعة الصالتين الأخريَين إلى 125 شخصاً".
وكان الفرع الأول للسينما العراقيّة قد اختار "نادي الصيد" في بغداد مقراً لانطلاقته نحو دعم الثقافة السينمائيّة في العراق وتوفير الفرصة لمحبّي الأفلام العربيّة والأجنبيّة. وقد افتتح صالتَين للسينما واحدة في إربيل والأخرى في "مول المنصور" في بغداد، من دون أي دعم حكومي أو خارجي. ويلفت هنا موقع "دنانير" إلى أن ذلك يكشف حيويّة "طاقات شابة تعمل على إيصال رسالة إلى العالم الخارجي بأن العراق حريص على التطوّر ومسايرة البلدان الأخرى".
وتجدر الإشارة إلى أنه في إطار نشاطات بغداد عاصمة الثقافة العربيّة لعام 2013، تمّ إنجاز سبعة أفلام سينمائيّة عراقيّة وتسعة عروض مسرحيّة.
أفلام سينمائيّة عراقيّة جديدة
وتقول مديرة عمليات "بغداد عاصمة للثقافة العربيّة" بشرى جعفر إن مؤسّسة السينما والمسرح الحكوميّة(4) "حقّقت نجاحاً ملحوظاً من خلال تهيئة نحو ثمانية أفلام روائيّة طويلة وأخرى وثائقيّة أصبحت جاهزة للعرض على الشاشة الكبيرة، ونحو ثمانية أفلام أخرى ما زالت في مرحلة التحضيرات التصويريّة. ومن بين تلك الأفلام، فيلم ’الواسطي‘ للمخرج طارق الجبوري، فيما لم تتمّ المباشرة بعد بفيلمَي ’الحصان‘ للمخرج ثائر محمد يوسف و’الأستاذ‘ للمخرجة حمدية عبد الكريم اللذَين تتضمنهما خطّة الإنجاز".
من جهة أخرى، أعلنت المؤسّسة عن سبعة أفلام هي: "نجم البقال" و"بغداد حلم وردي" و"أحلام اليقظة" و"الحياة الشائكة" و"السياب" و"الجيش العراقي" و"برج بابل" التي أصبحت جاهزة للعرض، بما يظهر بحسب ما توضح جعفر "الوجه الثقافي المشرق لبغداد الحضارة والسلام والإبداع".
والكلام حول فعاليات مهرجان بغداد عاصمة للثقافة العربيّة لعام 2013، يبدو مثيراً حين يتكفّل بعودة عجلة الإنتاج السينمائي في العراق إلى الدوران، لكنه يصطدم بالحقائق الأساسيّة ذاتها: أي قيمة لإنتاج أفلام سينمائيّة في بلاد لا تعرف ثقافة المشاهدة السينمائيّة في صالات عرض توفّر الحدّ الأدنى من تطلع العراقيّين إلى فسحة ثقافيّة كانت لغاية ما قبل العام 1990، أحد مصادرهم في المعرفة والتسلية الراقية؟!
* نشرت في "المونيتور"