يبدو المصير الفجائعي الذي لقيه الخميس ببغداد، التشكيلي العراقي – الدانماركي ياسين عطية، تكثيفا لإزمة هوية لا تواجه ثقافة الراحل وحسب، بل بلاده باكملها، حد ان انها تبدو وكأنها قدر رهيب يطارد ابناءها وإن طاروا الى اقاصي الارض.
عطيه، وهو رسام خبر التجريد، وصار دالة على فنه التشكيلي وحضوره داخل بلاده وخارجه ( صار لاجئا سياسيا في الدانمارك 1998)، ضعف امام الحنين لبلاده واهله، ليصل الى بغداد اوائل شهر آيار ( صار اقسى الشهور لفرط الموت الذي شهدته ايامه)، دون ان يدري ان السيارة التي توقفت عند مطعم "الركن الأخضر" في "حي البنوك" ببغداد، ستصبح بعد قليل حتفه الدموي الرهيب.
صاحب اسلوب الاحتفاء بالحياة، لونا وتشكيلات كان تعرض لمطاردة اجهزة النظام الديكتاتوري، عن نشاطه الفكري والانساني الذي بلغ من "الجرأة" مدى جعل من امن صدام يترصده، قرر الرحيل، ليقيم فترة في العاصمة الاردنية، قبل سفره عام 1998 الى الدانمارك ويقيم في العاصمة كوبنهاغن، ومنها يطوف على عواصم اوروبية عارضا لوحاته ومهرجان الوانها.
الفنان الذي "استقبله الموت العراقي بالاحضان"، كان مأسورا بفكرة توجزعمله الفني : "تعميق مفهوم الجمال لدى المتلقي رغم مأسوية حياته"، فضلا عن رغبة تنتظم في تيار يكاد يجمع كثيرا من اهل الابداع الادبي والفني، في ان يكون شاهداً على تحولات بلاده وإن بدت وهي ماضية الى خراب عميم".
الجانب الحياتي الثقيل ( في مضمونه السياسي) الذي دفعها الى الرحيل عن بلاده، هو ذاته ( في سببه الانساني المادي) الذي قاده الى العودة، فهو منذ وصوله الى بغداد سعى الى اثنين : "المطالبة بحقوقه كسجين سياسي سابق ايام صدام اذ اعتقل نهاية ثمانينيات القرن الماضي"، و"حسم خلاف مع اخوته بشأن أرث عائلي "، ولانه مجبول على اليأس العراقي، قرر المغادرة اوائل حزيران بعد الفشل في الحصول على "حقوقه" اكانت تلك التي تعثرت الدولة بمنحها اليه، او التي "اغتصبها" اشقاؤه.
القبح في تحولاته، قبح حياته داخل البلاد في عصرها "الديكتاتوري"، وقبح العنف والخوف في البلاد وهي "ديمقراطية" كان يدفعه بقوة الى النقيض: الجمال في تجليات اللون كمعادل للفرح الغائب والمستلب . هنا يقول الناقد علي النجار عن الراحل عطية " يبدو أن ثمة وله بالإمساك بأجمل إشعاعات الطيف الملون سكن مخيلة الفنان ياسين عطية منذ أن تلمس خطواته الأكثر نضجا من مساره الفني. فرسوماته, وبحدود العقدين من السنين, لم تفقد بريق موشور ملونتها المنتقاة انبساطا من رحم بيئة مثالية لا تزال مزهرة على حافة المدارات الملتهبة. لقد انشأ عمارته اللونية المنتقاة بعناية لا تخلو من ولع تصميمي, ليس كما المعماري. بل بما يسمح لشروط اللعب من اخذ مداها, انسجاما, اختلاطا, وبعثرة. وليفسح بعد ذلك للخبرة البصرية بأن تلملم عناصرها الإدراكية البيئية وتهيئها لتدخلاتها الدراماتيكية. لقد أدرك ياسين قوانين لعبته الضمنية (الحركة والسكون) وأنتج لنا رسومات جميلة".
انها المواجهة اللونية المبهجة لوقائع الالم والشظف التي عاناها الراحل ياسين عطية، وعلى تلك الوقائع كان احتجاجه من نوع خاص، "ليس صراخا بل هادئا مثل شخصيته، فبالرغم من كل ما مر به هذا الفنان من ظروف صعبة منذ تخرجه في معهد الفنون الجميلة ليقاد الى سجن ابي غريب الرهيب بحجة تجاوز الحدود، وهو يجتهد في احتجاجه عبر مشاهد لقصص عشق ذاتية وانثيالاث متداعية من ذاكرة تكتظ بشتى الصور المختزنة ليعيدها خطوطا والوانا، ليبقى فنه مرتبطا بالمرئي من الأشياء، ويظل فناً وصفياً تابعا من ذات الواقع عبر أسلوب قائم على تفكيك جوهر الاشياء المختفية وراء المظاهر الحياتية للانسان المعاصر وهمومه، ليقوم الفنان باعطاء تعبير محسوس لهذا الجوهر في محاولة جادة لاكتشاف غير المرئي والمستتر في ذات الاشياء وطريقة وجودها".
لا عدل حكم حياة الراحل في تحولاتها داخل البلاد وخارجها، فنقل هذا الغياب الى "بناء محكم وعادل للالوان والاشكال" في لوحته، التي توقف عندها الشاعر ادونيس مبهورا بفيض تدفقاتها اللونية والحسية الحرة، لكنه لم يتمكن من ان يلوي عنق الظلم وهو يتقدم في بلاده، لترعبه وهي "ديكتاتورية" ثم لتقتله وهي "ديمقراطية".