بوستر الفيلم
الجديد اننا حيال فيلم موسيقي – غنائي ولكنه ايضا مخلص للنسيج الدرامي الاصلي لرواية فيكتور هيغو، وكانت عروضه بدأت في منطقتنا قبل نحو اسبوعين، وهو ما جعل فوزه بثلاث جوائز ضمن مسابقة "الكرة الذهبية" (غولدن غلوب) قبل يومين، حدثا جديرا بالمتابعة، فقد فاز " Les Miserables " بجائزة احسن فيلم موسيقي، و ممثله هيو جاكمان نال جائزة افضل ممثل، وممثلته آن هاثاواي حازت على جائزة احسن ممثلة مساعدة.
ومع المشهد الاول تكون ثنائية: القانون الغاشم السلطوي ( ممثلا بالشرطي الذي لا يرحم جافرت الذي يؤدي دوره الممثل راسل كرو)- السجين الباحث عن ضوء عدالة وحرية (ممثلا بجان فالجان الذي يؤدي دوره الممثل هيو جاكمان)، قد رسمت ملامحها، مع خوف ووجل يقابله المشاهد، لاسيما ان لا حوار في الفيلم غير النص المغنى وفق اسلوب الغناء الكلاسيكي الذي يناسب المسرحيات الموسيقية الضخمة، والقريب من قالب الغناء الاوبرالي، الثقيل عادة على اسماع الجمهور المحلي في منطقتنا، غير ان هذا التردد عند المشاهد، مايلبث ان يخف ليتحول الى حرص على المتابعة حتى يصل الى حدود الشغف بمتابعة كل حدث، وكل حركة في اداء مجموعة كبيرة من الممثلين الجيدين.
ويحسب هذا التحول لحسن السيناريو الذي كتبه ويليام نيكولسن اعتمادا على نص المسرحية الموسيقية التي كتبها كلود- ميشيل شونبيرغ والين بوبليل، ولبراعة المخرج توم هوبر والذي عرفناه من قبل مخرجا للفيلم الفائز بجائزة الأوسكارقبل سنتين " خطاب الملك" او "كينغ سبيتش".
ومن المشهد الذي عرفنا بثنائية (جان فالجان- جافرت) يحصل التحول في المسار الدرامي ومن ثم الانساني الذي يخلل حدة الثنائية ( الضحية- الشرطي)، فبعد سنوات من الافراج الشرطي، يصبح فالجان صاحب مصنع ورئيس بلدية مونروي سور مير، وهناك يتعمق المسار الانساني، حين يكتشف فالجان، العاملة فانتين ( الممثلة آن هاثاواي) الحريصة على العمل بداب لتوفير حياة كريمة لطفلتها الوحيدة، كوزيت ( تؤدي شخصيتها إيزابيل ألين) المودعة بحماية الثنائي الجشع وعديم الضمير (الممثل ساشا بارون كوهين، والممثلة هيلينا بونهام كارتر).
المسار الدرامي يتصاعد، حين يقوم رئيس العمال بطرد فانتين من عملها في معمل للخياطة، فتضطر للتحول إلى الدعارة. هنا لايمكن الا التوقف عند عناصر بارعة في الاخراج والسينماتوغرافيا والاداء التمثيلي، عبر مشهد تحول العاملة المظلومة الى بيع جسدها، فيكون المشهد الذي برعت بادائه الممثلة هاثاواي ( اضطرت لتخفيض وزنها لتبدو نحيلة مريضة واهنة فعلا وعاشت لاسابيع على الشوفان فقط)، احد اكثر المشاهد قسوة في تاريخ السينما لجهة تكثيف الدلالات الرمزية والنفسية والجسدية لقذارة بيع الجسد من اجل توفير لقمة الخبز. مشهد مرسوم بعناية وان كان مصنوعا وفق تقنيات ومؤثرات بصرية لكن بفضاء مسرحي واقعي، كل شيء فيه يوحي بالقذارة والظلمة الخانقة والعتمة والقسوة، من بائعات الجسد الى المتربصين بحاجة فانتين الى المال كي ترسله لابنتها، فتبيع اسنانها، وشعرها الى جانب بيعها لجسدها، الى المكان القذر الخانق، الى الرجال السماسرة باصواتهم الغليظة الجارحة، واغنيات التي تشبه الفحيح، فيما فانتين تذوي في ذلك الفضاء المعتم الخانق، لتنقل الى المستشفى وهناك يلتقيها جان فالجان بوصفه رئيس بلدية المدينة، وتخبره قبل موتها بقصة ابنتها، ليبدأ من هنا مسار درامي جديد.
اداء الممثلة آن هاثواي لدور فانتين، وان بدا قصيرا مع زمن الفيلم ، الا انه بدا من الاتقان والبراعة، ما يمكنه ان يرسخ في ذهن المشاهد بقوة: انه بدت كالامل وقد حاصره الالم من كل جانب، ليتحول خيبة متواصلة، انها صورة الجمال الذي يذوي في اقبية المجتمع وقوانينه القاسية، انها صورة الحق وهي تتمزق بيد القانون الغاشم، ومن هنا يأتي فوزها بجائزة احسن ممثلة مساعدة في جوائز "غولدن غلوب" تقديرا مستحقا عن دورها اللافت والعميق.
فيكتور هيغو وصف في روايته وانتقد الظلم الاجتماعي في فرنسا بين سقوط نابليون في 1815 والثورة الفاشلة ضد الملك لويس فيليب في 1832. إنه يكتب في مقدمته لرواية "البؤساء" : "تخلق العادات والقوانين في فرنسا ظرفا اجتماعيا هو نوع من جحيم بشري. فطالما توجد لامبالاة وفقر على الأرض، تبدو الحاجة لكتب كهذا الكتاب ضرورية دائما".
فالجان وبعد موت فانتين، يسعى الى الوصول للابنة الصغيرة كوزيت، ومقابل انتزاعها من براثن الثنائي الجشع، لا يتردد في مبادلتها بالكثير من الاموال، كي يكون بمثابة الأب لها.، وتصبح بعد تسع سنوات، شابة جميلة يقع في هواها احد الطلبة الثائرين والباحثين عن الحرية، ليجد فالجان نفسه في جبهة الثوار من اجل انقاذ حبيب ابنته، وليواجه جافرت العنيد مرة اخرى، ولكن هذه المرة، وبتاثير قتله لاحد الاطفال في جبهة الثوار، يكون قد بلغ القلق اشده، وراح في واحد من مشاهد الفيلم التي لاتنسى يمشي متأرجحا على حافات الابنية العليا في باريس، تعبيرا عن قلقه الذي يورث العذاب وتأنيب الضمير، ليقرر الانتحار رميا لجسده في من الحافة العالية الى نهر السين.
ومثلما بدأ مشواره مع الحرية بعد خروجه من السجن، عبر دير معزول، انتهى جان فالجان الى الدير بحثا عن سلام نهائي، اذ اصبح مطمئنا على مصير كوزيت التي اختارت الحب والثورة، وكان الموغد مناسبا لاستحضار روح فانتين، والتحليق الى السمار للقائها، ولقاء ارواح الشبان القتلى على حاجز الثورة في شارع سوفلو بباريس، حيث مشهد النهاية لكن صوت الثوار المغدورين يتسع ليصبح صوت الشعب باكمله فينشيد حرية هادر.
كل الانتقالات الرهيبة لشخصية جان فالجان: من السجين المظلوم الى المسؤول الحكومي، ثم الحريص على رسالة تربية كوزيت وفاء لروح فانتين، ثم الاشتراك بالثورة، اداها الممثل هيو جاكمان ببراعة لافتة، حد ان اداء الممثل النجم راسل كرو لشخصية جافرت بدا باهتا امام الهدير التعبيري للمثل جاكمان وعنه استحق جائزة "غولدن غلوب".
من الادب الى المسرح الموسيقي والغنائي ومنه الى الشاشة، انتقالات جعلت عالما خياليا في الفيلم، يبدو حقيقيا في قوة ملامحه، واتصاله مع افكار ومصائر انسانية ما انفكت تعيش في عالمنا المعاصر والحقيقي بقوة.
* نشرت في "المدى" البغدادية