كتاب "محمود صبري ... حياته وفنه وفكره": حمدي التكمجي يصوغ بيانا نادرا في المحبة والوفاء لصديق عمره ورفيق فكرته
علي عبد الامير عجام*
مجموعة من الاشارات والدلالات والحكايا والاخبار كانت تحيلني الى الفنان الراحل محمود صبري، اولها بيانه الفني الشهير الذي حمل عنوان "نظرية الكم" الذي اربكني وانا في اول نهمي الذي لم يكن يتوقف عند حد، في الاقبال على كل ما هو جديد ومغاير في الفنون والمعرفة والحياة، وثانيها بورتريه غاية في الرقة والجمال لزعيم الحزب الشيوعي سلام عادل الذي هرسته مع الاف من خيرة شباب العراق و مثقفيه وطلبته، مجنزرة البعث في انقلاب 8 شباط الدموي، وكان لسحر بورتريه الراحل صبري عن سلام عادل ان قربني كثيرا من فكرته، وان كنت ما ازال اخوض في تجربة المراهقة فكريا وانسانيا، وثالثها دعوة كريمة تلقيتها وانا في اقامتي الاولى في العاصمة الاردنية، وتحديدا في بداية قرننا الحالي، من قبل استاذي واخي الكبير، الدكتور المهندس حمدي التكمجي لاعداد كتاب يوثق محمود صبري، سيرة فنية وفكرية وانسانية.

اليوم وانا استعيد بحسرة فرصة انجاز كتاب، وفرته دعوة الاستاذ التكمجي لي، عن رائد الواقعية - التعبيرية في الرسم العراقي الحديث، اشعر مسرة غامرة ذلك ان الفكرة انجزها حقيقة ماثلة امامنا، الاستاذ التكمجي عن صديقه ورفيق عمره وفكرته، وأحد من شكلوا مسارا خاصا ليس في التشكيل وحسب، بل في عموم النتاج الثقافي العراقي، لجهة هذا البيان الفصيح في عمل زاوج بقوة ومهارة بين الفن كلغة واليات وسياق، والفكر الانساني المحرض على قيم الخير والعدل والجمال، قيم لطالما نقلها الراحل صبري من مادتها السياسية الخام الى خطاب فكري يتصل عميقا بالانسان، فكان درسا مبكرا في احالة الفن الى مهمته الاجتماعية، دون فجاجة وبلا مباشرة وبعيدا عن اي جسر يوصله من السياسة الى الفن، بل كان على العكس من هذا يجعل السياسة خطابا انسانيا ويرفع من قيمتها الى مرتبة الخطاب الفني الانساني.
اليوم انجز الاستاذ التكمجي وثيقة محبة بالدرجة الاساس لصديق عمر من نوع خاص، كالذي يعنيه صديق مثل محمود صبري، لكنها لم تكن وثيقة عن صداقة شخصية وحسب، بل وثيقة فنية وتاريخية واجتماعية تكشف تحولات العراق منذ قيام دولته المعاصرة قبل قرن تقريبا الى اليوم.
وثيقة التكمجي التي بين ايدينا عبر كتاب " محمود صبري ... حياته وفنه وفكره"، صاغها بطريقة تجمع بين الوفاء والحقيقة التاريخية الموضوعية، حد انها تنفع اليوم كدليل للباحث في اثر الفنان الراحل الكبير وسيرته.
انها وثيقة جمعت بين الارث الفني الزاخر لصبري وبين مسارات التطور الفكري له، تلك المسارات التي لا تكشفها اعماله بل في افكاره حول الفن ذاته، الافكار التي صاغها لاحقا في نظرية احسبها رسالة مستقبلية مبكرة اخذت عنوان نظرية الكم او واقعية الكم، في مؤشر استعير وصفه من الناقد التشكيلي عادل كامل الذي قال ان تجربة محمود صبري تعني "اغناء مفهوم التجريب، في تنوعه، وتعدديته، وليس في انغلاقه."
وأسلوبه، اي محمود صبري، لم يكن تطبيقات لنظرية محددة، خالصة، بل استجابة لنزعته الواقعية ـ التعبيرية، المتأثرة بالفكر الاشتراكي، الماركسي، لبلورة النزعة: الواقعية الانتقادية، وليس محاكاة الطبيعة، أو الأساليب التقليدية فموضوعات: الشهيد، والعوائل المشردة، والفقر، انفرد فيها وحده، بتعبيرية استقى أصولها من وعيه المبكر بالظلم الاجتماعي، الذي يرجعنا إلى أصول سومرية سحيقة، إلى جانب وعيه الاجتماعي ـ السياسي، المبكر للتحرر الوطني.
ان محمود صبري، كرسام وكمنظر، ليس مكملاً للأسماء الرائدة فحسب، بل منهج قد نجده ينبثق، عبر التشخيص أو التجريد، كي تستعيد الواقعية تجددها، وليس بصفتها محاكاة، أو انعكاساً، بل جزءاً من عالم يولد فوق أنقاض ما يتهدم.
هذه قراءة اولى عن فنان تكاد حياته بين نفي واخلاص فكري، وموقف نقدي متجدد من الفكر والفن والحياة والسياسة، تختصر سيرة العراق المعاصر صعودا ونزولا، وجمع هذه السيرة وتوثيقها باللوحة والصور الفتوغرافية والرسائل، وقبل ذلك توثيق الدراسات والاشارة الى بعض ما كتب عنه بعد رحيله، ما كان ليكون الا بالدأب والوفاء وفيض المحبة الذي اعتاده كثيرون من الاستاذ التكمجي امد الله في عمره، نبعا عراقيا وانسانيا صافيا لطالما ارتوى منه كثيرون، ولطالما احاطني شخصيا بلمسات رقته وكرمه الانساني في اوقات شحت فيها اللمسة الانسانية.
وضمن افاق عمله واخلاصه لروح العراق الجميل، وضع الناشر والفنان هيثم فتح الله لمسات من اناقة على كتاب " محود صبري" عبر طبعة فخمة للكتاب تولاها في داره "الاديب"، لمسات بدت متممة لما انجزه حمدي التكمجي، في مثاله النادر في المحبة، حين منحنا هذه الفرصة النادرة في استعادة انسان نادر وفنان مفكر من طراز خاص: الراحل الوسيم حتى في آخر ايامه ... محمود صبري.
* قدمت ضمن احتفالية خاصة في غاليري الاندى بعمّان ونشرت في ملحق "تاتو" الذي تصدره مؤسسة "المدى" البغدادية |