عمّان- علي عبد الأمير مثلما كان الفن التشكيلي احد العلامات اللافتة في الثقافة العراقية المعاصرة، كان نقد ذلك الفن علامة على حيوية ما في النقد، حتى وان بدا للفنانين والجمهور المتذوق على حد سواء، ما يشبه الاحجية الغامضة التي تزيد التشكيل المعاصر "غموضا". لكن اسم الناقد والكاتب سهيل سامي نادر، ظل لافتا في اتجاه تكون لاحقا وضم: عادل كامل ثم شوكت الربيعي وحميد ياسين ففاروق يوسف وكفاح الحبيب وسعد هادي، وما يبدو امتيازا لصاحب رواية "التل" انه كما يقول مارست الكتابة في الفن التشكيلي ، ومن موقع الصحفي الذي كنته – موقع لا يمكن تخطيه برغم التباساته ومشكلاته. إنه موقع يخضع للظروف والتوجيهات السياسية والاديولوجية، وفي العراق تكاد هذه التوجيهات تجري على شكل حملات مفاجئة، وتدقيق في الدوافع، وتأويل للكلمات، وشق للصدور، وإجبار الكاتب على أن يكون رقيباً على نفسه، توخياً للسلامة"، وهو كشف صريح لم يقاربه غيره من النقاد، مثلما ربط بين كون التشكيل العراقي عملا باحثا عن هويته " لقد أدركت مبكرا أن ما كان الرسامون العراقيون يستعيرونه من انجازات الغير كبير، والفن العراقي كله تأسس بواسطة التعليم الأوروبي والتدريب في الخارج . لكن قوته تكمن في أنه كثيرا ما أطلق في استعاراته دلالات جديدة بوساطة أساطير الفنانين ورؤاهم الشخصية والرموز والمواضيع المحلية، لتندمج جميع تجاربه بسيرة راحت تتسع تدريجيا وتأخذ هوية ما" والنقد التشكيلي بكونه بحثا يتكون بحد ذاته وبطريقة مشابهة لتكون التشكيل ذاته " آمنت أن تحليلا يمكن أن يصل الى نتائج مقنعة، لابد من توليد أدواته وأوصافه داخل الحقل نفسه، بصرف النظر عما يعتقده الفنانون أنفسهم أو ما يشيع في أوساطهم".
 سهيل سامي نادر بكاميرا علي عبد الامير
من هنا وضع نادر كتابته، بل مهمة النقد الفني بمجملها، حيال مواجهة فكرية عميقة: "الحق بقراءة مختلفة، بصرف النظر عما يعتقده الفنانون أنفسهم أو ما يشيع في أوساطهم". ومثل هذا الحق في الاختلاف، الذي يقارب جوهر النقد، لايروق لفنانين عادة ما كان النقد بالنسبة اليهم، كتابة متحذلقة تمجد انجاز الفنان دون اي اضاءة عميقة لجوهرعمله، وهو تيار سيكبر في نقد التشكيل العراقي بل يبدو غالبا كتيار. النقد الفني حين يكون بلاغة ادبية ولا يقول شيئا وتأتي مقدمة كتابه الذي حمل عنوان "الخشن والناعم" الصادر حديثا عن "دار الاديب" العراقية التي انتقلت الى العاصمة الاردنية، بما يمكن اعتبارها بيانا مهما عن حال الفن العراقي المعاصر ونقده يقول الكتب والصحافي الرائد (عمل في الصحافة العراقية لنحو نصف قرن او يزيد) في باب تبرير تأخره في اصدار كتاب نقدي: "فقدت الايمان بما كان يسمى بالنقد الفني المنشور في الصحافة الذي كان أغلبه نتاج البلاغة الأدبية، ولا يقول شيئا محددا، بل إنني فضلت أن اكتب تحقيقات ونصوص لا توصيف لها ، وما زلت كذلك. إن لغتي الجافة نسبيا ، حتى لو هوّمت وحلّقت بلاغيا أحيانا ، تمثل ما أردت أن أفهمه في تلك اللحظة ، وما كنت معنيا أن أطلق عليها أي تصنيف ولاسيما اسم النقد، بل هي كتابة شخصية عن أشياء أستطيع قياسها وأحدد موقفي منها". وفي موضع آخر يقول "أن لا وجود للنقد الفني بوصفه حركة مستقلة، انه نص يختلط بنصوص أخرى.. انه لا ينفصل عن التقاليد الأدبية، فخطته أدبية، أوصافه وتعابيره، ولا سيما لغته كلها، وطريقته في الحكم". ولأننا كنا قد بدأنا علاقتنا بالثقافة، مثل آلاف قبلنا، بمحاولات في كتابة الشعر، وقراءته، باعتباره حاضنة أولية للثقافة، فقد وجدنا في أنفسنا هوى لقراءة الشعر، وقراءة النقد الذي ينشر عنه، ودراسة آليات ذلك النقد، إلا أن الصلة الوثيقة التي تربطنا بالرسم ونقد الرسم جعلتنا نبحث، معظم الوقت، في تخوم، العلاقة بين هذين النمطين الإبداعيين، رغم انهما من طبيعتين مختلفتين: طبيعة لغوية، وأخرى بصرية، إلا أننا نشعر أننا نتلمس وشائجهما قوية بشكل محسوس". صحيح انها "كتابة شخصية" ولكنها جوهرية لجهة رصدها ابرز منعطفات التشكيل العراقي المعاصر: من صعوده العبقري عبر صاحب نصب "ساحة التحرير"، ايقونة العاصمة بغداد، الراحل جواد سليم، حتى النهب الواسع لذخائر الفن العراقي المتزامن مع الانهيار المدوي للدولة العراقية المعاصرة في الغزو الاميركي 2003. من فصل يبدو بحثا عن ملامح الرسم العراقي مكتوب في العام 1974 الى آخر يبدو وكأنه نبوءة مبكرة عن تهافت الدولة العراقية الجديدة "علم بلا دولة" وهو مخصص لنقد علم وطني مقترح قدمه المعمار العراقي رفعت الجاردجي. ورغم سعة الرصد الفني هذا وبراعته، الا ان صاحبه يظل مصرا على انه قراءة تلقائية وشخصية تتقاذفها زلازل العراق السياسية والفكرية بنتائجها الدموية على الاغلب: "في نهاية التسعينيات وصلت الى الستين وأنا اؤجل بكتابي، لكني بسبب اختناقات شرحتها، أصدرت روايتي الأولى (التل) عند الحافات القلقة، أي قبل الاحتلال بشهر ونصف، فما عاد كتاب في الفن التشكيلي يخطر على بالي، بل إنني، بسبب أخطاء عراقية سياسية خطرة، وبموازاتها سهوي وضجري ولامبالاتي، وجدتني خارج العراق أبحث عن ملجأ آمن . هذه قصة اخرى، حقيقية وخشنة، أدركت معها أنني فقدت الكثير من وثائقي وكتاباتي الى الأبد، وأنني أضفت إلى مشاعري الانسحابية السابقة، مشاعر ممثل كان يعيد انتاج مسرح عراقي يسوده الفوضى وعدم اليقين". ومثلما يقول المؤلف ان "الخشن والناعم" دال على "ملمس الأنسجة والسطوح ايضا، لكن .. لكنه يصف تعاريج الحياة وسطوحها كذلك وبلغة "ناعمة" بل شديدة الطراوة والعذوبة يمرر سهيل سامي نادر وقائع "خشنة" من نوع: "لقد رحل التشكيل العراقي الى الخارج، ارشيفه احترق، مئات اللوحات ضاعت بالتهريب والسرقة والحرق، فنانونه هاجروا الى جهات مختلفة، انه مثل كل شيء في العراق ذكرى، علينا استعادتها دون جدوى". الكتاب من القطع الصغير، يقع في 254 صفحة، بغلاف "ناعم" يخفي الكثير من الوقائع "الخشنة" عن فنون العراق المعاصرة وحياته الضاجة بالرعب.
* نشرة القراءة هذه في صحيفة "الحياة"
|