نقد فني  



مسلسل درامي يذكّر العراقيين بان لديهم (ذبّاحا) سبق نظرائه في (القاعدة) بعقود

تاريخ النشر       03/12/2011 06:00 AM


بغداد-علي عبد الامير 
بعد عقود متصلة من معايشة الحروب وقسوة مؤسسات الحكم، أصبح العنف السلوكي واللفظي والفعلي مادة العراقيين الاثيرة، حد ان اطفالهم في عطلة عيد الفطر الاخيرة استخدموا اسلحة تقارب الحقيقية فاصيب بحسب مصادر طبية في "مستشفى ابن الهيثم" ببغداد والمتخصص بطب العيون، نحو خمسين طفلا، جروح خمسة منهم بليغة نتيجة اللعب ببنادق تطلق كرات رصاصية صغيرة تتشظى بعد الاطلاق.
وفي اليوم الاول للعيد انتهت حلقات مسلسل درامي مثير للجدل كانت تعرضه قناة" البغدادية" التي تتخذ من مصر مقرا لها طوال رمضان، ويحمل عنوانه لقبا ارتبط بحياة العراقيين عميقا، وتحديدا في سبعينيات القرن الماضي، هو "ابو طبر" كناية عن سفاح نفذ سلسلة من عمليات القتل التي روعت المواطنين وتحديدا في بغداد العام 1973عبر إستخدام فأس حادة يسميها العراقيون "طبر".
صحيح ان الذاكرة الشعبية تحفظ للحدث ارتباطه بمخطط جهنمي، عملت على تنفيذه سلطات النظام العراقي السابق، عبر اشاعة الترويع والهلع فيما كانت هي تصفي خصومها السياسيين على مهل وبهدوء، الا ان ما كان المسلسل الذي كتبه اشهر كاتب دراما تلفزيونية عراقي اليوم، حامد المالكي، يحاول وإن عبر الحبكة الدرامية، إدانته اي ادانة العنف ومصادره وحال الترويع النفسي والسياسي التي خلقتها سلسلة جرائم القتل التي نفذها "أبو طبر"، الا انه دون ان يدري القائمون عليه، وقع في المحظور ذاته، فبدا المسلسل تكريسا للعنف في شهر تميل فيه النفوس الى استعادات تاريخية تحض على الايمان، وتعمل على تهدئة الارواح وتعطيرها بشذى فكري وانساني، لا ان يقدم عمل هو في حقيقته نشيد دموي بامتياز، غير ان لفرط الدموية التي استغرقت فيها الوقائع العراقية لم تشكل المراجعات النقدية للمسلسل اي مأخذ على عناصر الاستغراق في العنف وتأصيله كرسالة، وإن جاءت في سياق درامي، عن حدث دموي بامتياز.
كأن العراقيين لم يكفهم وبخاصة في السنوات الاخيرة حشود من "ابو طبر" وقعت فيهم تقتيلا وترويعا وذبحا، حتى جاء المسلسل الذي اخرجه سامي الجنادي، ليذكرهم بان مواطنا منهم كان سبق "ذبّاحي القاعدة" بعقود، وكأن العائلات العراقية لم يكفها الواقع بوصفه مصدرا للعنف الرهيب، حتى تتفرج على فيلم مرعب طويل بنحو 30 ساعة.


مسلسل "ابو طبر": تمجيد العنف في بلد عانى أهوالا وفظائع؟
قد تكون الدراما العراقية ربحت في الاداء اللافت لمعظم من ادى ادوار الشخصيات الرئيسة في المسلسل، وتحديدا الفنان كاظم القريشي (ابو طبر)، ولكنها خسرت كثيرا في الجانب الانساني، لجهة ان يصبح العنف ايقاعا يوميا ورسائل تأتي ايضا من التاريخ القريب، رسالة موقعة بفأس يسيل الدم من حافاتها.
انه ليس حقيقيا ان تبدو دمويا جدا حتى تكون امينا لوقائع عنيفة ومروعة، وليس بالضرورة ان تحيل المشاهد الى ساحات حرب باشلاء القتلى كي تكون امينا في انتاج عمل درامي عن الحرب، هنا لنأخذ من فيلم "هير" مثالا، فهو عن القسوة التي تعنيها حرب، مثل حرب فيتنام، لكن دونما قذائف ولا جبهات قتال.
وكان من السذاجة في المسلسل مع تقدم حلقاته عدم الانتباه الى نوع من التضامن "النفسي" على الاقل، مع صاحب الجرائم المروعة، وهو ما قصده الكاتب للايحاء بان القاتل لم يكن غير "اداة تنفيذ لقتل سياسي" وهو امر غير مستبعد لجهة التاريخ الدموي للنظام السابق، لكن اي تبرير او تعاطف ومن اي نوع مع قاتل كان "يفلسف" جرائمه نفسيا وسياسيا وفكريا، يبدو امرا خطيرا يقع في المحظورات، فات على المؤلف المالكي الذي راح حتى الدقيقة الاخيرة يحيط القاتل بنوع من الهالة الاسطورية (لم يمت رغم تنفيذ الاعدام به ثلاث مرات)، بل ان الموسيقى وتحديدا في الحلقة الاخيرة، انسجمت مع هذا المؤشر في اضفاء هالة الغموض والاعجاب الضمني بل "القدسي" ايضا، فهي التي وضعها كريم هميم اعتمدت عمل المؤلف البريطاني بيتر غبريال المعنون "باشن –عاطفة" الذي وضعه كموسيقى تصويرية لفيلم المخرج مارتن سكورسيزي "الاغواء الاخير للسيد المسيح"، وعلى مدى نحو ربع ساعة هي مشاهد الاعدام او تتصل به، اعاد الملسلسل مقاطع كثيرة من عمل موسيقي جميل لا علاقة لها بمجرم مستغرق في وحشيته، حتى وان كان ينفذ خطة سياسية، هي ذاتها الانغام التي كانت ترافق صلب السيد المسيح عليه السلام في الفيلم!
جملة من الرسائل الخطأ في مضامينها، وفي توقيتها، جاء عليها مسلسل "ابو طبر" حد ان المشاهد غير العراقي سيتسائل بعد ان ينهي متابعة الحلقات بفيض دمويتها، وهو العارف ايضا بوقائع العراق الدموية في السنوات الثمان الماضية،  سيسأل وهو على حق، "لماذا يغضب العراقيين حين يقول لهم احد ما انكم عنيفون"؟ طالما انهم حتى في محاولتهم الهروب، عبر العمل الدرامي الفني، من وقائعهم العنيفة، يختارون قصة مستغرقة في العنف للفرجة عليها.

* نشرت في "الحياة" اللندنية



 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM