واشنطن- علي عبد الأمير بعد لحظات من وصوله مطار تورونتو بكندا الجمعة الماضي، قادما من اميركا حيث يعمل استاذا في جامعة نيويورك الرسمية، ألمت نوبة قلبية حادة بعالم الاثار العراقية واستاذ الاشوريات دوني جورج، فارق على اثرها الحياة، فيما كانت حقيبته اليدوية مكتظة ببحوث ودراسات كانت ستكون مادته الاساسية في سلسلة من المحاضرات حول عمليات سرقة آثار العراق بعد الغزو الاميركي العام 2003، وجهده في هذا الشأن من اجل استعادة كنوز بلاده المنهوبة. جورج الذي تعامل معه اكاديميون ومسؤولون اميركيون في بغداد ولاحقا في الولايات المتحدة التي وصلها من بلاده بعد أن تلقى مع عائلته تهديدات عدة بالقتل اثر عمله رئيسا لهيئة الاثار العراقية، اعتبروه "من أفضل خبراء العالم بآثار بلاد الرافدين" وانه عمل جاهداً لإعادة الآثار المسروقة من المتحف العراقي. اللافت ان استاذ الحضارة الرافدينية كان قد غادر بلاده في آب (اغسطس) العام 2006 مكرهاً بعد تعرض أولاده للتهديد بالقتل، وتعرضه شخصياُ الى ضغوطات كبيرة في عمله كان وصفها في تصريحات عقب وصوله أميركا مما ادى به الى " تقديم طلب التقاعد بعد أكثر من ثلاثين سنة خدمة حقيقة في كل مجالات الآثار، والمستغرب أنه حصلت الموافقة على طلبي بعد ساعتين فقط من تقديم الطلب من دون أي استفسار من قبل الحكومة، مع العلم أن منصبي رئيساً لهيئة الآثار كان بدرجة وكيل الوزارة".

دوني جورج :اسم لوجع رافديني اخر
ومع ان الراحل كان يتفادى دائما قراءة المشهد العراقي الراهن من منظورات سياسية مفضلا البقاء في حدود دائرته الاكاديمية الا ان كان يقول "أنا شخصياً متخصص في الآثار والتأريخ، ولست سياسياً، ولكن من خبرتي أجد بأن العراق يمر بفترة مظلمة أخرى من تأريخه الطويل، ولكنها مثل سابقاتها لن تستمر كثيراً، وسوف ينهض الشعب العراقي بكل أطيافه ليتحد ويكون دولته الحديثة مثلما كان يعمل في كل الفترات". وفيما راح دوني جورد ينشط مع مؤسسات دبلوماسية واكاديمية اميركية في تعقب اثار بلاده داخل الولايات المتحدة ودول اخرى، كان يرى ان "الحضارة العراقية القديمة ليست غريبة عن الواقع الأكاديمي في الولايات المتحدة" ومن هنا جاء عمله الاكاديمي في جامعة ستوني بروك بمدينة نيويورك، حيث تمكن من تحويل "الإستغراب المؤقت عند الطلبة الجدد من وجود عمق حضاري عراقي، الى أعجاب ثم الى تفاعل ثم الى الدفاع عن شواهد هذا العمق الحضاري". كما عرف الراحل دوليا بأنه "الرجل الذي انقذ المتحف الوطني العراقي" و"الشخص الشافي لمحنة المواقع والتحف القديمة في العراق" في اعتراف بجهده الاستثنائي لانقاذ الكثير من المواقع الاثارية التي قد تكون سرقت أو دمرت بعد حرب الاطاحة بصدام في عام 2003، وكان له الفضل في اعادة اكثر من نصف الاثار التي نهبت من المتحف العراقي و تقدر بـ 15 الف قطعة تعود إلى الحضارات الرافدينية القديمة. وفي محاضراته المتعلقة بالبحث عن جواب ما لسؤال ظل لغزا "ماذا حدث للمتحف العراقي اثناء الغزو الأميركي" كان الرئيس السابق للهيئة العامة للآثار والتراث يؤكد انه كان "شاهد عيان لما حدث من استباحة لآلاف القطع النادرة والمخطوطات والرقيمات والتماثيل"، وحاول مع اصدقائه من المهتمين والباحثين انقاذ ما يمكن انقاذه من هذا الارث الضخم. وفيما لم تكن الاتفاقيات الدولية كافية لحماية المتحف العراقي، اتخذت قوات اميركية من موقع عسكري محاذي لـ"زقورة اور" التاريخية مقرا لها، كما ان قوات دول حليفة لواشنطن مثل بولندا، جعلت مدينة بابل التاريخية ثكنة عسكرية، ويرى جورج "رغم كل التبريرات التي قيلت عن وجود لصوص ليسوا معروفين قاموا بهذا العمل (نهب المتحف العراقي وتدمير كثير من كنوزه) ،أو عدم وجود أوامر واضحة بالدفاع عن المتحف وآثاره ضد أي اعتداء، فالذين قاموا بهذا العمل كانوا يدركون جيدا ماذا يفعلون، ويبدو انهم كانوا يملكون مخططات مفصلة للمبنى ومخازن الاثار واماكن القطع الثمينة، حيث استخدموا الممرات والابواب عن دراية تامة وكانوا مزودين بالمعدات وآلات قطع الزجاج الكبيرة، وكل التسهيلات التي تكفل نقل القطع المطلوبة بالسرعة القصوى". ويكشف عالم الاثار العراقي الراحل ان "ثلاث مجموعات دخلت الى المتحف، توزع كل منها مهمة، بحيث تكفلت جميعها بالقضاء على المتحف بشكل كامل حتى قطع الاثاث والمعدات التكنولوجية والمكتبية وصور الأرشيف والمقاعد والطاولات، وكان اخطرها المجموعة التي سلكت طريقا غير معروف حتى للعاملين في المتحف للوصول الى المخازن، وسرقة اكثر من خمسة الاف ختم اسطواني وبعض الحلي الذهبية التي تعود الى آلاف السنين قبل الميلاد.. وعندما وصلت تلك المجموعة الى القاعة البابلية قام افردها بتحطيم رؤوس تماثيل الاسود لعدم قدرتهم على سرقتها نظراً لكبر حجمها وكأنهم كانوا يعملون وفق قاعدة: خذوا ما تستطيعون حمله أما ما تبقى فحطموه أو احرقوه".
ابتسامة "موناليزا نمرود" الشهيرة وفي حين كان الراحل يروي هذه القصص المفجعة فانه في مداخلاته كان يروي حكايات اخرى عن دفاع عراقيين عاديين عن حضارة بلادهم " تمكن بعض الاهالي من انقاذ عدد لا بأس به من القطع والمخطوطات النادرة عبر اخلائها الى منازلهم ومن ثم اعادتها لاحقا بعد ان انتهت عمليات السطو التي استمرت عدة أيام ومنها تمثال الملك شملنصر حيث عاد الى مكانه سالما.. كما ان مهتمين كانوا يقومون بشراء بعض المسروقات المعروضة في الشوارع واعادتها الى المتحف لمعرفتهم التامة بقيمتها الكبيرة". لكنه لم يكن يخف حزنه حين يتحدث عن تمثال "موناليزا نمرود" الشهيرة بابتسامتها وكذلك جميع التماثيل التي لم يتمكن السارقون من حملها فقاموا بتحطيمها، فيما يشير الى مواقع التنقيب الأثري في وسط البلاد وجنوبها التي تعرضت للسطو أيضا، بل انه حين يناشد الهيئات العلمية والمنظمات الدولية المعنية بالتراث الانساني من أجل حماية هذه المواقع كان يصف ما تعرضت وتتعرض اليه بـ "الابادة لشواهد تخص الانسانية جمعاء". "سيرة مجتزأة" لكن مثقفين وباحثين عراقيين، وإن كانوا لايشككون بصدقية الراحل، ينتقدون السيرة التي كان يقدمها لنهب الاثار الرافدينية، مؤكدين انها "سيرة مجتزأة" لجهة عمليات النهب والتهريب للاثار العراقية خلال عقد التسعينات من القرن الماضي، واتهمت في تنفيذها شخصيات بارزة من اركان النظام السابق وابرزها ارشد ياسين زوج الاخت غير الشقيقة للرئيس صدام حسين مما ادى بالاخير الى ابعاد ياسين عن دائرة النفوذ غير انه لم يوقع ضده اي عقوبة. وكان دوني جورج ولد العام 1950، وتحصل في العام 1974 على بكالوريوس في الآثار من جامعة بغداد ،عين بعدها موظفاً في المتحف العراقي، وحصل في العام 1986 حصل على شهادة الماجستير والدكتوراه لاحقا العام 1995 في "اثار ما قبل التاريخ"، وشغل العام 2000 منصب مدير عام الدراسات والبحوث في الهيئة العامة للآثار، ثم رئيسا لها العام 2005 .
|