نقد فني  



التشكيلي العراق يحيى الشيخ في عمّان بحثا عن مستقر بعد اكثر من ثلاثين عاما في المنفى

ِعلي عبد الامير

تاريخ النشر       19/03/2011 06:00 AM


عمّان- علي عبد الأمير
لا يتردد التشكيلي العراقي يحيى الشيخ ابن جيل ستينيات القرن الماضي، جيل الصخب الفكري والانساني والمجدد لكثير من الاساليب، ومنها اساليب التشكيل العراقي التي بدأت حينها بالافتراق عن تجربة الرواد وما بعدهم، عن الكشف عن سر وجوده قبل ايام في عمّان، انه اخيرا تعب من سيرة امتدت لنحو 35 عاما في المنافي: درس الماجستير في يوغسلافيا السابقة 1970 ثم الدكتوراه في الاتحاد السوفياتي السابق 1984 ثم الى سوريا لصعوبة عودته الى بلاده التي كان يحكمها نظام صدام حسين الذي كان الشيخ احد ابرز معارضيه من بين المثقفين العراقيين، ثم من دمشق الى ليبيا للعمل اكاديميا في احدى جامعاتها، ثم الى عمّان مؤقتا ومنها الى النرويج لاجئا سياسيا، ومنها الى تونس للعمل الاكاديمي مرة اخرى، قبل ان يقرر الانتهاء من سيرة شاقة كهذه في الاستقرار بمدينة عمّان التي تضم طائفة كبيرة من مثقفي بلاده وتحديدا فنانيها التشكيليين، ممن وجدوا في عصرية المدينة وحيوية معارضها التشكيلية على مدار العام فسحة ممكنة لايبدو العراق اليوم قادرا على ان يتوفر عليها.
هو ابن مدينة العمارة (جنوب العراق) المولود فيها العام 1945، وهو ابن الموروث المندائي، لا لمجرد  الامتياز الديني، بل بما منحه ذلك الموروث من طاقة فكرية تبعثها عناصر تلك البيئة الجغرافية والانسانية: الماء، القصب، شجرة الياس، جريد النخل والبردي. هي عناصر كوّنت مؤثرات مزاجه الفني الاول فثمة تضاريس الارض، التراب المحروث، الصدأ، الخشب وتشققاته، ثم مالبث هذه المؤثرات الطبيعية ان صارت عناصر اساسية في بناء لوحته وسياقها اللوني.
هو في معرضه " هكذا سميت الاشجار" الذي اقامه في النرويج كأنه عاد وفيا للقاء عناصر بيئته الاولى، مستحضرا كل ما يعني الشجر، ولكن في سياق من "انسنة الطبيعة"، فورقة شجرة يمكن ان تصير غيمة، يمكن ان افقا لمنظور يبدو اقرب الى الصمت البارد.


الشيخ في عمّان بحثا عن فضاء فني وانساني بعيدا عن قسوة المنفى (كاميرا علي عجام)
 
انه يكتب في يوميات المرسم:  "بعد مجموعتيي " رسائل الى الورد " و " ذاكرة العشب " المكرستين للعشب وما حمل، اللتين انشغلت بهما طيلة عشرة أعوام ( 89-99 ) بعدها لم الطخ يديي بحبر الكرافيك، فمنذ أن حط بي الرحال في شمال الأرض همت بين ألياف الصوف البّده    لوحات منتشيا بدفئها وشفافية معناها، حتى تراكمت في مرسمي كما تتراكم لحافات البدو فوق بعضها البعض فضاق بها صدري قبل أن يضيق بها المكان، فلملمت وشائع الصوف وركنتها جانبا ..... حدث ذلك قبل أكثر من عام. لقد استنفدت المادة خزينها وكرهت تكرار نفسي". !!
وفي حقيقة ان في التجريد في الفن التشكيلي العراقي انحيازا كاملا للحداثة الغربية، الا ان الشيخ يصر على انه ليس تجريديا، ربما سورياليا بعض الشيء، سوريالية الحلم تحديدا، بل انه ان الحداثة ذاتها هي موقف تأويلي، فيما الحياة موقف شخصي ازاء الطبيعة وتجليات عناصرها التي سترافق الشيخ عميقا في عمله، لاسيما ان فكرته حتى منتصف سبعينيات القرن الماضي كانت في الانتصار لحلم الانسان بالانعتاق، وفي التعبير الفني عن ذلك الانتصار، وتبدو مجموعة اعماله الغرافيكية او المنضوية تحت شكل "البوستر السياسي" تجسيدا عميقا لتلك المرحلة من سيرته الانسانية والفكرية، مع انها "شهداء الحدائق" بدت في حينها اعمالا تضمر الكثير من التجديد الفني وخارج النمط المباشر السائد، حتى ان نظرة استعادية لها اليوم تكشف كم هي معاصرة، وكم هي منتمية الى لحظتنا المعيوشة اليوم.
وبقدر ما يبدو مفهومه حيال الفن والحياة قد تعرض الى تبدلات كثيرة وان ضمن سيرة متواصلة، الا ان لوحته ليست لها سيرة، ويبدو ان انتقالاته في الاماكن، لعبت دورا كبيرا في عدم وجود سيرة متواصلة للوحته، فكان يرى الى الطبيعة لذاتها، لا يلوي عنق عناصرها كي تبدو متوافقة مع الاسلوب،  ومن هنا امتاز عن الاخرين، فهو لم يثق كثيرا بما رسخته تجارب سبقته في الفن العراقي، بل عاد الى افكار الميثولوجيا الرافدينية ليس لياخذ منها، بل ليوطد بحسب وعيه الشخصي، طريقة تعاطي الفنان العراقي القديم مع عناصر الطبيعة.
 

العودة الى الميثولوجيا الرافدينية
 
وكانت انتقالاته المتغايرة اجتماعيا وفكريا، انتجت فيه حساسيات متغايرة لجهة التعاطي مع العمل الفني، فهو انتج اعمالا فنية هي مرايا وجوده الشخصي، وتعكس وعيه الانساني والفكري، وانتجها في ظروف تكاد تكون قاتلة للعمل الفنين حيث لا معارض حقيقية، لا متلقين، وغياب تام لمناخ ثقافي مؤهل للتعاطي مع العمل الفني. ورغم هذا الانقطاع الذي تصدى له الشيخ بان راح يركز كثيرا على عمله في اللوحة بعيدا عن فقدانه اجواء تذوقها وتحولها الى معطى ثقافي، فكم مرة تهدم مرسمه، وكم مرة تتهدم قناعات رافقت اجواء المرسم ذاك، وفي كل مرة يعود الى الرسم لم تكن ترافقه اي مرجعيات، فخبراته اليومية هي مرجعياته، خبرة المرسم التي صقلت ونضجت.
من هنا لا حنين لديه للماضي، بضمن ذلك بلاده، لا عواطف لديه حيال العودة، بل يتعامل مع وجوده انطلاقا من مكانه الشخصي الحالي، ترافق ذلك مع قسوة صريحة للوقائع دفعته نحو غموض في اللوحة، غموض في التعبير، غير ان املا يراوده باستعادة الوضع الاجتماعي الهادىء بما سينعكس على تعاطيه مرة اخرى مع التلقي  وقاعات العراض، تلك الاجواء التي افتقدها منذ سنوات، بسبب هجرات اوصلته الى حدود اليأس الذي قابله بالاندفاع باقصى ما امكنه الى حرية تمثلت بخروجه بعيدا عن سجن القناعات السابقة.

من اعماله الغرافيكية الجديدة
 
هو اليوم في عمّان يبحث عن مسكن منفتح على مرسم، او العكس يصح ايضا، على امل الدخول الى مناخ حيوي جديد، مناخ التجارب الثقافية والانسانية، مناخ الاصدقاء لاسيما انه لطالما كان يزرع وحيدا، يحصد ويأكل وحيدا، وفي هذا قسوة، اقصاء للحياة، التي وإن بدت قاسية عليها، الا انه قسى عليها ايضا، حين لم يسمح لها بان تهزأ منه.

*نشرت في صحيفة "الحياة"



 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM