عمّان- علي عبد الأمير
من النادر ان يذكر فناني النحت العراقي والعربي المعاصر دون ان يكون اسم محمد غني حكمت في الصدراة، لا لتجربته التي امتدت عميقا في صداقة النحاس والمرمر والخشب، بل لردياته التجديدة التي ما انفكت تقدم معطياتها في اعمال تبدو منسجمة في نسيج واحد لكنه لايعني التكرار بل نضوج الملامح والاسلوب والمعنى. ويأتي معرضه الاخير في "غاليري بنك القاهرة عمان" الذي افتتح الاثنين الماضي لتأكيد هذا السياق وان بدا اقرب في خطابه الى تعاطي الفنون والاداب في ستينيات القرن الماضي مع قضية الالم الانساني ورفعها الى مستوى الحلم كاشارة لعصر جديد بلا قهر، لا بل ان هذا المعنى تجسد حتى في التفاصيل الواقعية لمعرضه الذي حمل عنوان "محمد غني..نحّات من العراق" فهو ترك اعماله تسرد حكاياتها ودلالاتها فيما هو غاب عن المعرض لمرضه، حضر الفن وغاب الفنان، وحضرت الامال والاحلام وغاب المحرّض عليها!
النحات محمد غني حكمت
"شيخ النحاتين" كما سموه زملاء له في اكاديمية الفنون الجميلة ببغداد حين احتفوا به قبل اسابيع بعودة مؤقتة للاتفاق على اعمال نحتية ونصب جديدة تتوزع ساحات واماكن في العاصمة العراقية التي تشهد له بكثير من معالمها الفنية، يرى انه سليل حضارة رافدينية الهمته تجسيد الاثر الانساني والاعلاء من شأنه الى مصاف التعبير الفني. ومن هنا تأتي ندرة الاحالات الغربية المعاصرة في اعماله، تتلبسه روح فنان آشوري، ذلك الذي ابدع ثيران آشور المجنحة، الشاهد القوي على جموح خيال الفنان العراقي القديم ودقة تحويله ذلك الخيال الى كيان ملموس وواقعي. محمد غني المولود ببغداد العام 1929، قرأ في اعماله الجديدة فصولا من الاهوال العراقية الاخيرة، لكنه كما الفنان الرافديني القديم انتمى للدلالات ولم يظل سجين الاحداث ومعطياتها الواقعية، فثمة الكثير من الشخصيات المنكسرة، ثمة النسوة المنتظرات المرعوبات، ثمة مهاجرون، مشهد الانفجار، والقسوة والرحيل، لكن هذا لم يمنع من انحيازه الى الحلم بالخروج من مدار الرعب هذا، فكانت منحوتاته : "تلاحم"، "حنان"، "أمل"، "سفر" فيما كان عمله "الحلم" عامرا بالدلالات الايجابية للحضور الانساني، بل ان النحاس هنا بدا مطواعا بين يدي الفنان حد ان حركة الانسان الساعي الى الامساك بالهلال، بدت متجسدة حد ان الريح كانت تهب على اذيال هذا الحالم الصاعد نحو هلال خلاصه وامله. ان صاحب نصب وتماثيل "المتنبي"، "كهرمانة"، "شهريار" و"بساط الريح" وغيرها من الشواهد الفنية الشاخصة في بغداد فضلا عن مئات المنحوتات والاعمال الخشبية التي تتنفس فضاءات بيوت بغدادية صاغ في معرضه الاخير نشيدا انسانيا بحكايات مجسدة بهيئات بشرية عراقية الملامح والتطلعات، وان كان استعان بتقنيات النحت المعاصر، فكان نسيج فنه واقعيا تعبيريا، فيه لمسة الفن العميقة دونما انغلاق وتكبر على حق المتلقي العادي في ان يتذوق العمل الفني ويدخل فضاءه التعبيري والدلالي. ومثلما عمله النحتي الجميل "الحلم" كان هناك "سفر" في تكويناته المتحركة ولكنها المنتظمة في تراتب علوي يصل حد الانبثاق نحو مسافات تنادي المتعب الحزين، وتدفعه الى سفر الامال والخلاص. واذا كانت هذه الدلالات حاضرة في "سفر" فانها حاضرة ايضا في "رحيل" ولكن ثمة الفرق التام بين الحالين، ففي الاخيرة تبدو الذات الانسانية مدغوعة قسرا على ترك المكان الاصلي، حد ان الارجل والاقدام تحاول التشبث ما امكنها في محلها رغم ريح تدفع نحو مصير غير محدد الملامح.
عمله النحتي الجميل "الحلم"
وفي لمسة وفاء منه يقول المشرف على "غاليري بنك القاهرة عمّان" التشكيلي الاردني محمد الجالوس "اننا سعداء جدا حين نقدم محمد غني حكمت. النحات الذي اشتغل طويلا على تاريخ العراق وتراثه الغني. وقدم عبر عشرات السنين نموذجا للعمل النحتي العربي، بخصوصية الشرق وعراقة كنوزه، وضمن فهم معاصر اكد معرفته لتراث الحضارات التي سادت ما بين النهرين: بابلية، آشورية وسومرية".
*نشرت في "الحياة"
|