حاوره عدنان حسين أحمد: هو واحد من جيل الثمانينات الشعري في العراق، سعى الى الا حتفاظ بتوازنه الروحي وحرص على رسالة الشعر من السقوط في وحل التكسب والأزدواجية، انضم قبل نحو عامين الى موجات الادباء المنفيين بعيدا عن سطوة الديكتاتورية، ورفض ان يدرج نفسه في قائمة الطبّالين وشهود الزور، ولم يركن الى الهدوء والسكينة في الدهاليز المظلمة في العراق، بل اّثر التغرب مغامرة، والشعر رسالة، والرفض طريقاً. هو متوزع في نشاطه الثقافي اذ يكتب الشعر و النقد الموسيقي والكتابة الصحفية دون ان يرى ذلك تشتتا للتخصص الدقيق للكاتب الذي ينبغي عليه التركيز على احد الاجناس الابداعية. وما بين انشغالاته في الكتابة محررا ثقافيا وسياسيا في اذاعة المستقبل المعارضة للنظام الديكتاتوري في بغداد، وناقدا وباحثا موسيقيا ومراسلا ثقافيا يكتب لصحف ومجلات اردنية وعربية، كان لنا هذا الحوار مع صاحب ديواني "يدان تشيران لفكرة الالم" و" خذا الاناشيد ثناء لغيابك".
* مالذي تحاول القبض عليه من خلال فعل الكتابة ( الشعرية ) .. وهل تعتقد أن الكتابة ( الابداعية ) نقيض الموت ، وتقف بالضد من العبث واللاجدوى ؟ - تتحدث هكذا ببساطة عن سيرة الموت، نحن الذين ثقلت اكتافنا بغباره وتسممت رئاتنا !! هكذا بدا الموت ايقاعياَ يومياَ، خضت رعبه الى درجة النسيان، فيما أوكلت مهمة هزّنا بعنف الى انهماكات أكثر ( جدية ) من الموت ذاته .. من كل هذا بدت الكتابة الشعرية، لا كنقيض للموت أو غيره من التغييب بل هي تحقيقاَ للجدوى، الجدوى التي تعني الامل بتسجيل محاولتنا للاعلان عن ارتعاشة يد في موسم كامل للجفاف . * جيل الثمانينات الشعري هو الجيل الأكثر خسارةً على صعيد الأدب، وبوصفك واحداَ من أبرز وجوهه الشعرية، سمً لنا عدداً من أبرز ممثلي هذا الجيل من الشعراء الشباب مُميزاً إياهم عن شعراء الكدية والتلفيق ونهازّي الفرص ؟ - لاحظ ايها الصديق، ان ما تسميه خسارة هنا، احسبه تجربة محتشدة وضاجة بكل المستويات التعبيرية اّه لو ان ( حرية ) ما كانت ستلاقي انماط التعبير في شعر الثمانينات – هذه أزمة عامة تخص كامل الثقافة والحياة العراقية – لإمكن التعرف على وثائق ابداع حقيقية ستبقى تشكل مرجعيات روحية غنية . ان حربين قذفتهم الى أتونها ثم المنافي وتكسرات الاتصال فيها، عمّقت مصادر تلك الروحية غير ان نزولها السريع على الشعراء والمتتالي، رعباَ اثر رعب لم يدعهم يتوفرون على حد ادنى من المراجعة للتجربة، بغية ضمها كنسيج فني في النصوص، لا كردود فعل لما شهدوا وعاشوا. أنني استطيع ان اسمي تجارب الشعراء، طالب عبد العزيز، عبد الزهرة زكي، محمد تركي النصار، محمد مظلوم ، باسم المرعبي، خالد جابر يوسف، نصيف الناصري، عدنان الصائغ، دنيا ميخائيل، سعد جاسم، صلاح حسن، احمد عبد الحسين، سهام جبار وحكمت الحاج ، كأصحاب نصوص اقتربت مع ملامح الرعب وقاربتها بأفضل أنجاز نصي . * كيف يتسنى للشعراء المنفيين أن يحتفظوا بتوازنهم الروحي ويحرصوا على رسالة الشعر من السقوط في وحل التكسب والأزدواجية ؟ - الضغوط اقصاها، حياتياَ حيث الحصار الخارجي يتناغم مع الاّخر الداخلي، لتنعدم الاختيارات، وتتقلص الصفحة امام الاتصال وهو جذر فاعل في حياة المثقف وثقافياَ ايضاَ حيث تندر فسحة النشر وتغدو الكتابة نوىَ في التراسل المجنون مع الصمت، ضمن أجواء كهذه، يغدو المستوى العادي للنص مقبولاَ، لكنني لم ازل افاجئ بنصوص بمستويات عالية، تحديث حي للغة الشعر، وتكسير للنمطية وتجريب وحث لا يهدأ ... من هنا أكاد اختلف معك في التقييم فيما تسميه السقوط في وحل التكسب والازدواجية يمارسه البعض القليل، وهؤلاء، يمارسون عملاَ خارج الشعر، فالخطاب الموجه بغية تحقيق قصد ( وجاهي ) لن يندرج كمهمة ثقافية اطلاقاَ . وأصحاب خطاب كهذا لم يخرجوا من ظلامية عصور الانحطاط، لذا جاءت كتابتهم تشبه وقائع تلك العصور . * حملت عصا ترحالك أسوةً بمن سبقوك كالبياتي وسعدي يوسف وسركون بولص ... ماوقع الأمكنة الجديدة على قصائد الشاعر علي عبد الأمير ؟ - اكاد اكون من موجة الراحلين المتأخرة، وسبقتني الى الخروج من البلد موجات كثيرة . الامكنة الجديدة – هي مكان واحد حسب ولم يعد جديداَ – منحتني فضيلة الاتصال التي حرمت منها كثيراَ وهي كالهواء بالنسبة للمثقف المعاصر، خرجت من وطأة الخطاب التلفيقي ورعب التنظيم الهائل للكذب وتغييب الحقائق، لكن عيني ظلت تستدير نحو امكنتنا الحميمة التي كونتها ارواحنا وذائقتنا، تلقي الانشطة الثقافية اعتمده لتنشيط ذائقتي التي تتوزعها اهتمامات عدة يشكل الشعر فيها باعثاَ اساسياَ . * لم يقبل الشاعر علي عبد الأمير أن يدرج نفسه في قائمة الطبّالين وشهود الزور، ولم يركن الى الهدوء والسكينة في الدهاليز المظلمة في العراق، بل اّثر التغرب مغامرة، والشعر رسالة، والرفض طريقاً ... ما الذي توصلت اِليه من خلال الغربة والشعر والرفض ؟ - جبلت تكويناَ ووعياَ على الاختلاف، وكنت قريباَ الى نفسي، حسناَ لم اشهد زوراَ ولكنني خضت اوحال هزائم اجتماعية وسياسية ما انفكت توصلني من نتيجة خائبة الى اخرى .. كنت مغترباَ هناك غير ان الصداقات قللت من الوحشة، صداقات مع الامكنة، مع ناس قلوبهم صافية كالذهب، أرواحهم خضيبة وتكاد تطيح بها اغنية، هذه الخلاصات ما زالت تلاحقني هنا .. احزن لمصير مؤجل قذفت اليه عائلتي، فقد امضت سنوات تنتظرني ولم تزل تفعل ذلك حتى اللحظة .. فيما عن بعد أحيي معلمي الاول، شقيقي الناقد قاسم عبد الامير عجام وهو يكابد رعب الوقائع اليومية وضنك العيش وأقول له : ما الذي فعلت بي شرارة الوعي التي أوقدتها في روحي ذات يوم ؟
*هل تعتقد أن أعباء الكتابة خارج الوزن لا تقل صعوبة عن الكتابة الوزنية ... وما رأيك بقصيدة النثر، وهل تعتقد أنها ستجتاح بقية الأشكال الشعرية من عمود وتفعيلة وحُر ومرسل ؟ - لفرط ما تعلن عنه من سهولة، بات الطريق الى قصيدة النثر ملغوماَ بالصعوبات، وكما افهم من السؤال، فهي واحدة من اشكال التعبير الشعري، لا امتياز لها بأفضلية ما، يظل الشعر، فسحة للحرية، حرية الشكل ومحمولات النصوص، ثم عليك أن تلاحظ قرابة ما بين قصيدة النثر وازمنة التغيير، أو اللحظات الحاسمة اجتماعياَ و تاريخياَ فيما توقيعات الموسيقى في الشعر تأتي متوافقة مع ازمنة متراخية ومنتظمة الايقاع .
الزميل عدنان حسين أحمد من شرفة شقته حين كان مقيما في هولندا (كاميرا علي عجام)
*هل إستطاع النقد أن يحاور نتاجاتك الشعرية ويكشف عنها، أم أن هناك قصوراَ ملحوظاَ في متابعة النقاد لجيل الثمانينات تحديداً ؟ - كتب نقاد وشعراء عن مجموعتي الشعريتين "يدان تشيران لفكرة الالم" و "خذ الاناشيد ثناء لغيابك" وعلاقة النقد بالنص الابداعي، ظلت محكومة بما ليس مندرجاَ في الجوهر الفني .. فأنشغل نقاد الادب العراقي طوال فترة خلال الثمانينات بالتعامل مع "شعر رؤوساء التحرير"، وهذا التعبير بدا سائداَ لانه يحمل توصيفاَ لنقاد اوقفوا كتابتهم على نتاج شعراء كانوا في الصدارة الاعلامية. غير ان هذا لا يبدو انصافاَ حين لا نعزل اسهامات النقاد ياسين النصير، فاضل ثامر، الراحل عبد الجبار عباس – على ندرة ما كتب – وعبد الرحمن طهمازي، حاتم الصكر، وسعيد الغانمي وهؤلاء كتبوا لا عن شعر جيل الثمانينات حسب بل تابعوا الظاهرة الثقافية بجدية وامانة أفتقدهما ذلك الوقت . * يشهد الشعر العراقي تنابذاَ بين الأجيال، وكل جيلٍ يحاول أن يلغي الجيل السابق، ما سِر هذه القطيعة بين الأجيال علماَ بأن هناك من يدعّي بأن جيل الثمانينات هو إمتداد لجيل السبعينات ؟ - لا سر في حكاية الصراع الجيلي او الاختلاف، فهذا ليس بملمح عراقي، بل هو بالفعل ظاهرة عربية، وانا احيله الى غياب الحوار في حياتنا الثقافية، بل هو يعود أصلاَ لافتقادنا الى نظام تربوي يعلمنا احترام الرأي الاخر وبالتالي تعاطيه. متى اصبح حق الاختلاف في الرأي والتعبير متاحاَ فاننا لن نجد صياغة ساذجة أسمها القطيعة بين الاجيال، بل سيكون هناك التواصل وفضائله. *هل تعتقد ان بأمكان الشعر أن يتخلص نهائياَ من جعجعة الايديولوجيا ليتجه صوب الانبهار والدهشة والابداع ؟ - يمكن هذا للشعر حقاَ. وسائل الاتصال المعاصرة أخذت من الشعر كل ما أسند من "اغراض" غير شعرية فلم تعد مهمات الكشف عن الاحداث، والمديح والمحاكاة المباشرة لكل انشطة الحياة، مهمة لها علاقة بالشعر لا من قريب أو بعيد .. أما ان يكون الشعر على علاقة ما مع الايديولوجيا أو دونها، فهذه تخضع لتقييمات ذاتية تماماَ .. إن انهماك الشعر بجوانب غير مرئية، أو غير متحققة ولكنها فاعلة لهو عائد الى مرجعية فكرية، وهي هنا ايديولوجيا بالفهم السليم للمفردة غير الفهم الشائع الذي يحيلها الى السياسة والعمل المباشر في تفصيلاتها واعلامها . * يتوزع نشاطك الثقافي على ثلاث جبهات ... الشعر و النقد الموسيقي والكتابة الصحفية ... ترى هل يؤثر هذا التشتت والتشظي على التخصص الدقيق للكاتب الذي ينبغي عليه احد الاجناس الابداعية ؟ - لم امارس في هذه التوزعات الا ما احببت .. ففي الصحافة مثلاَ أجد متعة بالغة، فأنني اعيد صياغة حتى الخبر اعتماداَ على ذائقتي في اللغة وأكتب بما يبعد الصياغات السهلة عن مقالاتي، هذا جاء لكونني لم اعمل في مؤسسة صحافية كأنتظام مهني، وظلت علاقتي بالصحافة علاقة محبة دائماَ وأعجاباَ بصفة الاتصال الحيوية فيها. قد لا أبدو منصفاَ حين أقول بعدم تأثير ذلك على نصي الشعري، ولكنني كتبت في نقد الشعر، ونقد الموسيقى نصوصاَ فيها من المعرفة العميقة قدر ما فيها من اشراقات هي اقرب للشعر.
* نشر الحوار في صحيفة "الوفاق" العراقية المعارضة العام 1996.
|