نقد فني  



(إمبراطورية الأحلام): كتاب جديد عن السيرة الفنية والانسانية لسيسيل دي ميل

تاريخ النشر       12/10/2010 06:00 AM


علي عبد الأمير
قد تبدو السيرة الفنية للمخرج الاميركي الرائد في تاريخ هوليوود سيسيل دي ميل مرتبطة بمرحلة الافلام الصامتة ونتاجه البارز فيها، لكنه يبدو الاقرب الى متابعي الفن السابع ومحبيه عربيا من خلال فيلمه الملحمي "الوصايا العشر" الذي يصور قصة النبي موسى عليه السلام.
ولا تبدو تلك السيرة مجرد قراءة في تحولات انسان رسخ ملامح السينما بحسب نسختها الهوليوودية وحسب، بل انها تكاد تبدو اقرب الى مرآة تعكس جوانب عدة من تاريخ السينما والثقافة الاميركيتين، لما قيل عن الرجل من كلام كثير وتحديدا حول ارتباطه بالسياسية الاميركية الرسمية ولجنة مكارثي المتخصصة في  محاربة الفكر الليبرالي اليساري ايام الحرب الباردة، وترويجه المعتقدات الدينية حد رفعها الى مستوى الاساطير المقدسة.

المخرج سيسيل دي ميل: يميني الفكر مجدد في الفن السينمائي
 
وعن سيرته الضخمة هذه انسانيا وفنيا صدر قبل ايام كتاب بعنوان "امبراطورية الأحلام : الحياة الملحمية لسيسيل  دي ميل" بتوقيع المؤلف المتخصص بكتابة سير كبار اسماء السينما الاميركية سكوت آيمان الذي راجع حياة المخرج السينمائي الرائد اعتمادا  على مراسلاته واوراقه الخاصة  و قراءة ما وراء الصورة السينمائية للوصول الى كتابة بدت
متوازنة لاسيما ان شخصية دي ميل عرفت بانها معقدة ومتناقضة، مثل هي جزء من  تاريخ هوليوود.
 قراءة المؤلف آيمان وصفها نقاد وكتاب اميركيون بانها اعمق من تلك التي كتبها  المؤلف سيمون لوفيشا العام  2008 "سيسيل دي ميل حياة في الفن"، مع انها وصفت بقراءة المعية، وقدمت وصفا دقيقا لحياة المخرج، ولكن كتاب آيمان جاء  أكثر تفصيلا من دون أن يرهق القارىء وهو انجاز ملحوظ في كتاب بحجم كبير وجاء في نحو 600 صفحة.
ولا يركز آيمان على نجاح دي ميل بوصفه واحدا من المخرجين القلائل الذين واكبوا الانتقال من عصر الصمت الى الصوت في السينما، وبراعته في تقديم اعماله مجددا وفق رؤى تقنية مستجدة، كما حصل في عمله الملحمي "الوصايا العشر" حين اعاد اخراج النسخة الصامتة في ثلاثنيات القرن الماضي الى نسخة حديثة في الخمسينيات. وفي متابعته لتراكم المعرفة الجمالية والروحية عن دي ميل،  يكشف المؤلف تأثير عائلته المعروفة في الوسط المسرحي بنيوروك، وبخاصة تأثير صديق والده الكاتب المسرحي و مدير فرقة برودواي الشهير ديفيد بيلاسكو الذي كان يقدم اعمالا مستوحاة من قصص دينية.
عمل دي ميل المتوتر هو من شخصيته المتناقضة بشكل مدهش،  فهو وان ظل مخلصا لزوجة واحدة  لزوجة الا ان ذلك لم يمنع ان يكون له ثلاث عشيقات، ومثلما عرف بانه أوتوقراطي متسلط اشتهر بانه مسرف اسطوري، ومثلما عرف بميله الشديد الى مساعدة الاخرين وبسخاء الا انه اثارالذعر بين زملائه في عهد مكارثي اليمنية ومحاكماتها الفكرية حين كان من المنخرطين فيها بقوة. وبحسب هذه الملامح المتناقضة فان دي ميل وحتى وفاته العام 1959،  لم يكن صاحب افلام على حدة وحسب، بل انه "جسد قصة الصورة وميزة الحركة الاميركية وارتفاعها واشراقتها على امتداد العالم ".والنقطة البارزة في سيرة دي ميل  كانت صورته كرجل قوي مثّل "الطموح والعزيمة وعدم الخوف وكيف ان لا أحد يستطيع منعه من عمل ما يؤمن به صحيحا ونافعا".
في الكتاب متابعة لخطوات دي ميل من اللحظة التي دخل فيها هوليوود وحجز مكانا له على خريطتها  العام 1914  واخراجه اول فيلم صامت الى العام 1956 مع  فيلم "الوصايا العشر"، الذي كان أكبر نجاح له، ففي صناعة السينما الأميركية كان هناك سيسيل دي ميل ممثلا بامتياز للصورة الثابتة  للمخرج بحسب ملامح هوليوود:  رجل طاغية  يحمل البوق ويصرخ آمرا الآلاف من مجموعات الممثلين في افلامه الملحمية.
وكان عمل المؤلف سكوت آيمان وهو كاتب سيرة هوليوود المخضرم، ويحصل عادة في مؤلفاته على تفاصيل تتعلق بصناعة السينما لا يصل اليها كثيرون غيره، هو محاولة في الصراع مع شخصية المخرج المعروف المتعددة الأوجه، وهو ما اعطى عمله الكتابي هذا نوعا من كتابة تاريخ الصناعة السينمائية الكبيرة في مراحلها نحو ترسيخ القيم الفنية والجمالية.

غلاف كتاب "إمبراطورية الاحلام"
 
ان كتاب "إمبراطورية الأحلام" بما توفر عليه من المراسلات والسجلات المتنوعة المقدمة من قبل أحفاد  دي ميل  كشفت عن القوة الجسدية والطاقة الهائلة التي كانت تدفع  دي ميل للعمل 19 ساعة يوميا. وما جعل تلك الصورة "مقنعة" وواقعية  هو نجاح  المؤلف آيمان في توضيح كيفية لا انتصار دي ميل على التناقضات الداخلية فيه، بل في كيفية  تحويلها الى عوامل تنشط حياته وفكره وفنه، فالى جانب العقائد الدينية ، نجد ملذات الجسد وقد صورت على نطاق واسع في افلامه، او كما يقول المؤلف "شهوانية تتعايش مع القيم الروحية."
ان صاحب الافلام التي جاوزت السبعين قد يكون بحسب كتاب "امبراطورية الاحلام" من أكثر الشخصيات استبدادية في تاريخ صناعة الفيلم بل ان سيسيل دي ميل كان يعطي انطباعا وكأنه صاحب تكليف ديني لفرض ارائه وتصوراته  حتى بات ينظر اليه باعتباره رجل هوليوود اليميني المتعصب الذي نادرا ما يعطي اذنه للحوار.
السياسي اليميني المتعجرف، السخي في مد يد العون للاخرين، المتدين الصارم، العاشق الشهواني، المجدد لفنون السينما، المتآمر على زملائه سياسيا، كل هذه الصفات المتناقضة اجتمعت في رجل واحد هو دي ميل، لكن تعاطف القارىء مع شخصيته لم يكن عبر المادة الخام لحياته وسيرته بل في البراعة والدقة التي صوربهما سكوت آيمان تلك الحياة الموارة الصاخبة.


 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM