لا ترقى افلام الصيف في اميركا الى مستويات فنية لافتة، انطلاقا من فكرة ترسخت لعقود وربطت بين الصيف، بوصفه وقت عطلة، والتسلية وما بينهما عروض سينمائية تناسب الترفيه واوقات المرح. غير ان فيلم "إنسبشين" للمخرج كريستوفر نولان الذي بدأ عرضه قبل ايام في معظم الصالات الاميركية يخرج كليا عن سياق عروض افلام الصيف الترفيهية مع انه تصادف مع تسجيل درجات الحرارة ارقاما قياسية في العاصمة الاميركية على الاقل. انه فيلم عن العقل وانبثاق الافكار والاحلام ، لكن مخرجه وهو صاحب النسخة الاخيرة من سلسلة افلام "باتمان" وافضلها كقيمة فنية، جعل تلك الحكاية التي تتحدث عن العناصر"التأسيسية" والاولية (المأخوذ منها عنوان الفيلم) التي تصاحب تحولات العقل البشري، في اطار من حكاية تجمع بين التشويق السردي وعناصر الابهار كما في تقنيات افلام الخيال العلمي.
وفي حين تبدو فكرة ان تكون هناك "مجموعة متخصصة في سرقة الأحلام والأفكار"، مستحيلة وغير واقعية الا ان البناء السلس والعلمي لعناصرها جعلها ممكنة وتقنع المشاهد بقوة في الدخول الى عوالمها منذ الدقائق الاولى للفيلم، حين تقذف الامواج على ساحل في بلد اسيوي المحقق كوب ( ليوناردو دي كابريو)، الرجل الذي يدخل أحلام الآخرين لسرقة أسرارها، وقد تم توظيفه لسرقة أسرار سايتو (واتانابي كين ) الذي كان عرف في دورين بارزين لعبهما في "الساموراي الأخير" و "رسائل من أيوجيما"، وهو رجل أعمال يتمكن من أن يقلب الطاولة على المحقق النفساني، بعد اتهامه بمحاولة تنفيذ جريمة قتل ، مما يضطره العمل لصالح سايتو، الذي يعده باسقاط تهمة القتل والتمكن من العودة الى عائلته ( الاشارة اليها تأتي عبر صورة حلمية لولد وبنت يلعبان على الساحل، ثم تتكرر الصورة في مشاهد اخرى).
بوستر فيلم انسيبشين: العقل بوصفه مسرح جريمة
ويشكل كوب فريق عمله الذي يتكون من المفكر والمخطط آرثر (الممثل ليفيت جوزيف جوردون) و المهندسة المعمارية الشابة أريادن( الممثلة الين بيج) و ايمز (الممثل توم هاردي) و الصيدلاني يوسف (الممثل ديليب راو). تتولى المجموعة زرع فكرة في ذهن روبرت فيشر (الممثل سيليان ميرفي ) ابن احد بارونات الطاقة والمنافس الرئيسي لرجل الاعمال الاسيوي سايتو. هذا السياق الذي تمضي فيه الاحداث ينبثق عن منعطف غير متوقع، حين تظهر زوجة كوب التي كانت اختارت الموت انتحارا (الممثلة ماريون كوتيار) لتطارد أحلام زوجها في مشاهد تحتشد بكم هائل من المشاعر لاسيما ان خيطا بات يقرب بين زوجها والمهندسة المعمارية الشابة. في الفيلم عناية لافتة بالحوار بحيث يبدو سلسا، الحديث عن العقل الباطن والافكار والاحلام، ضمن سيناريو يبدو مستحقا ومن الان لجائزة اوسكار "افضل سيناريو أصلي" ناهيك عن جوائز تبدأ بـ"أفضل مؤثرات خاصة" ولا تنتهي بالاخراج اذ حقق نولان تحفته البصرية التي تتوفر على غنى تعبيري تجعلها تتفوق على ما حققه في "الفارس المعتم" او "دارك نايت".
ثمة في الفيلم اجواء من علم التحليل النفساني ولمسات من هيتشكوك، دون ان ننسى اجواء فرادة تميز بها المخرج الراحل ستانلي كوبريك على الاقل في فيلمه "اوديسا الفضاء 2001" ولكنها فرادة ليست بالبرودة الموحشة كما هي عند كوبريك، بل هي فرادة تحتفي بكثير من الروح والحيوية الانسانية، دون ان ننسى تلك النظرة الناقدة بقوة لخواء مدننا المعاصرة التي تبدو آيلة للسقوط رغم انها شاهقة وتكاد تسحق الانسان التائه تحت ظلالها، او تصويرها دائما من اعلى لتبدو غير محددة الملامح كما مجاهل النفس البشرية.
المخرج كريستوفر نولان: كيف تنجز قصيدة عن العقل الباطن للنفس البشرية؟
وضمن هذا البناء القائم على الاحتفاء بالانسان وتحولاته العقلية والنفسانية، جاءت المشاهد المتصلة مع تأثيرات "الخيال العلمي" وتقنياته فلم تظهر غريبة تلك مشاهد حالة فقدان الجاذبية ولا حتى المعارك المنفذة تحت تأثيرها، بل تبدو الاجساد وهي تطفو او تطير كما تحصل عادة للكثير منا في الاحلام، وهي ايضا براعة المخرج في تطويع فكرة تداخل الابعاد والازمنة كما نفذها في مشاهد التواء قسم من المدينة الممتدة افقيا لينطبق على قسمها الاخر، وفي مشهد الصور المتعددة لبطلي الفيلم في المرايا الكبيرة التي تتكسر لتتحول ممرات مكتظة بالبشر، دون ان ننسى مشهد الانفجارات وهي تطيح بكل شيء فيما المحقق كوب يتحدث الى رفيقته المهندسة عن تحولات المشاعر الانسانية وغموض الاحلام، حد ان المشاهد هنا يكاد يقبل بمثل تلك الانفجارات "الافتراضية" انطلاقا من فكرة كم من المرات التي تبدو فيها الاسئلة في العقل الانساني الباطن وكأنها انفجارات متتالية تعصف بالروح والفكر.
المقالة كما نشرت في صحيفة "الحياة" - ملحق سينما:
|