نقد فني  



بلاغة اللون عند كاندينسكي ...

تاريخ النشر       13/07/2010 06:00 AM


ترجمة: علي عبد الأمير
 
على مدار أوقات مختلفة كان "فاسيلي كاندينسكي" مواطناً لثلاثة بلدان: روسيا, المانيا, وفرنسا والتي سرعان ما أصبح فيها جزءاً عضوياً من رابطة الفنانين وهذا ما دعاه جدياً لأن يعد نفسه كفنان فرنسي ثقافته الأصيلة تتقاسمها التأثيرات الروسية والألمانية وكان في ظهوره المبكر يحث على إدخال ودمج العناصر الوطنية المختلفة في عمله: لقد كان روسياً بمزيج من الدماء الألمانية والمنغولية, قوميات متعددة بأفكارها عاداتها فنها وحياتها اليومية كلها كانت تشكل عامل إفتتان وسحر عميق بالنسبة له, لقد سافر بإتساع وعمق الى إيطاليا, النمسا, هولندا, شمال إفريقيا, فنلندا, فلسطين, تركيا واليونان, لكن ألمانيا وروسيا كانتا العلامتين الأساسيتين في مؤثرات فنه الإبداعي, لقد تأثر فكرياً بفلسفة (فيخته) و (شبلنغ) وبالرمزية الشعرية عند "ستيفن جورج" وأحب الحكايات والأدب الروسي وتلك القيم الروحية في الشعب الروسي, ظلت موسكو مكانه المحبب, ولطالما كتب عنها في مذكراته وبدفقات شعرية: [البيوت التي تلونت بلهب وردي, قرمزي, أزرق وفستقي, الكنائس كأغنيات عذبة, العشب بخضرته التي لا توصف, الكرملين بجداره الراسخ والصامت وإطلالة أبراجه, الصورة الظلية الثابتة البياض والملامح الجادة بحزم لإيفان العظيم والتي تحلق كأنها ترنيمة شكر مرعبة عند قبر, وتغطي كل شيء جاعلة العالم يغط في نسيان تام, الجمجمة الطويلة الرقبة مشدودة بعطش أزلي للسماء, لقد إستقرت عند علو القبة الذهبية – شمس موسكو].
     هكذا يتلمس كاندينسكي مؤثرات الأمكنة والذي جاء الى الفن محترفاً ولكن في وقت متأخر نسبياً حيث ترك مدرسة النحو في (أوديسا) ودخل جامعة موسكو فدرس القانون والإقتصاد السياسي في الوقت ذاته كان على علاقة كبيرة وولع بدراسة الإنثروبولوجيا الإجتماعية, لقد سافر في عدة رحلات أخذته الى أماكن متعددة من الإمبراطورية الروسية وبما يناسب متطلبات عمله الأكاديمي.
    


 
 في الثلاثين من عمره نشر عدداً من الأعمال النظرية كجزء من متطلبات نيل كرسي جامعي, لكن كاندينسكي ترك كل هذا فجأة ورحل الى "ميونيخ" لدراسة الرسم, ومنذ ذلك الحين أصبح من المتعذر فصل حياته عن ذلك الفن البصري, وحالاً بدأ البحث عن أسلوب شخصي, والطريق الى ذلك كان عاصفاً ومشحوناً بالإنجاز تارة, بالإحباط تارة أخرى, فمن التخطيطات الأولية لمشاهد الحياة عبر الحداثة الى التعبيرية ولاحقاً وعند عام 1900, الى الأشكال التجريدية, لقد صنع خطاه الأولى نحو التجريدية التامة, محاولاً في آن ايجاد ربط متوازن بين الواقعية والتجريدية ليس طمعاً بالقبول لكنه كان يرغب بلوغ ذلك المستوى من الإلهام حيث التجريدية أصبحت من الأهمية بما يناظرها من عالم الأشياء الواقعية.
     إن إنطباعاته, إرتجالاته وتكويناته (1910-1912) ما تزال تلك العناصر من الواقعية القادرة على إدهاش وإثارة خيال كتّاب الفن وإيقاظ حدسهم في عملية من (الإدراك الجزئي).
     وعنوانات مثل (وضوح), (غموض) و (شفق) وكلها من عام 1917 توضح بعضاً من موضوعات الفنان الأثيرة, في حين دانت بعض الأعمال الأخرى لذات الفترة بعنواناتها لملامح شكلية: (الرسم على أرض رمادية – 1916), (شكلان بيضويان) و (شكل بيضوي أحمر – 1920) ... كلها, أي تلك الأعمال من الممكن وصفها بتسمية (موسيقى الكرافيك), فقد عكست مزاج الفنان وإستطاعت موهبته ان تمنحها حياة اختصت بها, واُخضعت مباشرة لحياة فريدة بعقلانيتها وحسِّيتها والتي تميزت كظواهر تختزنها تلك الأعمال.
     ان التجريدية الصرفة التي ميّزت أعمال كاندينسكي في تلك الفترة لم تمنعه من رسم أشياء نهلت من الحياة, ذكريات هي بعض مشاهد من موسكو وكأنه بذلك كان يستبق رحيله عن المدينة التي أحب.

 

     لقد شكلت ثورة 1917 قوة حاسمة للنشاط الإبداعي في روسيا ولوقت ما إستطاعت صرف إنتباه كاندينسكي عن (تجريبيته) فإنتظم في العمل الإجتماعي: لعب دوراً في حماية الأعمال الثقافية والتاريخية, كذلك تأسيس متحف لفن الرسم بموسكو وإنشاء الأكاديمية الروسية لعلوم الآداب والفنون, وأصبح أستاذاً فخرياً في جامعة موسكو.
     في نهاية عام 1921 وصل برلين وبعدها (؟؟ايمر) – ولم يكن عام 1929 قد حل حتى أصبح كاندينسكي لاجئاً سياسياً – وبذلك وجد نفسه مقطوعاً عن وطنه الأم وحتى وصل كاندينسكي للرأس القيادي في مدرسة (الباهاوس), وهي المدرسة الشهيرة التي إختصت بتصاميم العمارة وفنونها الحرفية, وهناك بدأ في دراسة وإدراك أساسيات الإرتباط بين اللون والشكل, التداخل بين الصوت واللون, وحاول متابعة اللون باحثاً عن ما يشكله في الأثير اللامتناهي للخليقة.


    
 
ويرى كاندينسكي: من أجل تحسس شهقة العالم والوصول للعمق الغامض في ولادة وموت الكون يحتاج شخص ما لأن يسمع ويرى بشكل صحيح: [إنه من الضروري, أن يغلق شخص ما ذهنه بوجه العالم ... هنا أنا أغلق عيني وأضع الفرشاة على لوحة خلط الألوان وأدع الفرشاة تختار اللون, جاعلاً الألوان ذاتها تقرر أيها سيهب نفسه للفرشاة, لا الفنان حسب, بل أدواته أيضاً تسهم في معرفة رسم المستقبل].
     لقد أنهى كاندينسكي العقد الأخير من حياته في منطقة (نويلي – سور – ساين), ليس بعيداً عن باريس, وتوفي في عام 1944 عن عمر ناهز الـ 87 عاماً.
     وفي ربيع 1989 أقيم معرض لأعمال هذا الفنان بموسكو, وأصبح لداعية التجريد في الرسم وفنانه الكبير مناسبة تليق به وفي وطنه الأول.

*نشرت في صحيفة "القادسية" الإثنين 19-2-1990



 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM