نقد فني  



مدار الحرب في أفلام من ثمانينات القرن العشرين

تاريخ النشر       05/07/2010 06:00 AM


ترجمة واعداد: علي عبد الأمير

     إن أفلام الحرب في الثمانينات وكما في الأزمان الماضية التي تميزت بحوادثها المهمة, قُدِّمت الحرب بطريقتين: كمغامرة أولاً وكحالة معقدة ثانياً, وهي في ذلك كانت تتسم بتقليدية واضحة, غير أن أفلام الأعوام الأقرب بدت وهي تقدم الحرب بأوجه أخرى, أنها أظهرت شيئاً غير إعتيادي ... فالعواطف ظهرت في غاية التعقيد أكثر مما هي عليه في الماضي, ويتداخل ذلك حين تتوفر معرفة طبيعة الأعداء بدقة, وإذا كانت العاطفة هي عنصر الإختلاف الأول في الفيلم الحربي المعاصر, فإن الوجه الثاني الذي قُدِّمت فيه أفلام الحرب هو, رؤيتها السببية وإحتمالات نشوب حرب عالمية ثالثة, ستكون بمثابة (نهاية) لكل ما تشيعه الحرب! يندرج ضمن مفهوم تقديم (الحرب كمغامرة) فيلم المخرج (جون هيوستن) المعروف "هروب نحو النصر – 1981" الذي يُعد من أبرز هذه المجموعة (المغامرة) في الوقت الذي كان فيه فيلم حرب مثل (الملكة الإفريقية – 1951) قد تعرّض لأكبر إضطراب في الرأي, من خلال مجافاته للحقيقة حد الإضحاك, لكنه مع ذلك ظل فيلماً عجيباً والمخرج "هيوستن" في فيلمه (هروب نحو النصر) رسم مشاهد بصرية جارحة تحاول صنع مقاربات تكوينية بين مكملات (كرة القدم) و (الحرب): شِباك الهدف – الأسلاك الشائكة, أحذية الجند – أحذية كرة القدم, مخيم (باو) للأسر – الملعب, وكمحصلة جوهرية ظهر الفيلم وهو يصور الحرب من خلال الرياضة  والصعود بها من معنى متداول وشائع الى هدف أسمى وكأنها صرع حربي.
     وبطريقة قريبة الشبه يحكي "كلينت إيستوود" في فيلمه (تلال محطمة القلب – 1986) وبإعادته المشؤومة وغير المقنعة, عن الغزو الأميركي لغرينادا, إنها دعوة سخية في تلك اللغة الشنيعة والموحلة التي تُعلنها السياسة الأميركية ومكائدها.
     هناط أيضاً أفلام التحرير (المعادية للحرب), إن فيلمين من استراليا تم توزيعهما وتركا أثراً كبيراً, فعمل "بروس بيريسفورد" الذي كان بعنوان (كسارة مورانت – 1980) يتضمن الموضوعية أعلاه وإن كان لا يشبه فيلم (دروب المجد – 1957) للمخرج "ستانلي كوبريك" وفيلم "لوسي" (الملك والوطن – 1964) في تصويره لإستهلاك الفرد الفاجع جراء التسلط كما إن المخرج "بيتر واير" في فيلمه (جاليبولي – 1981) أنجز إستغاثة مؤثرة عن تلك الإثارة المضللة لدعاة الحروب الذين يرسمون للرجال قدراً مُهلكاً.
     إن أفضل فيلم يدين الحرب ظهر خلال العقد الأخير من هذا القرن كان فيلم "ناجيزا اوشيما" الذي كان بعنوان (عيد ميلاد سعيد يا سيد لورنس – 1983) وفيه أعداء من ثقافات ومباديء مختلفة ومتعارضة, وجدوا بذرة الصلة, إحترام هموم إنسانية بسيطة وعامة وأخيراً تحدث علاقة حب بينهم! وفي المشهد الأخير الذي أدّى فيه "توم كونتي" دور (مستر لورنس) يقوم بزيارة معتقله الياباني (تاكيشي) حيث كان ينتظر تنفيذ حكم الإعدام, إن الرجل الهالك يتعجب ... لِمَ عليه أن يموت في الوقت الذي لم تكن أفعاله (سبب الإدانة) بأسوأ مما قام به أي شخص آخر؟
     إنه مسار الوجدانيات التي تتردد أصداؤها في أثير عدد من أفلام الحرب المعاصرة, مشاعر الخطأ والصواب, الطيبة والخبث, تلك النسخ من العواطف التي تبدو معقدة أكثر مما مضى.
     في فيلم "ستانلي كوبريك" الذي حمل عنوان (د. سترينجلوف – 1964) كانت هناك أول إطلالة على الرعب النووي, يقوم بها حشد من المشاهدين, وتلك الإطلالة ما لبثت أن تحولت الى كوميديا سوداء, إنها تبدو الآن كعمل وثائقي في خصائصه التي تشبه العديد من الأعمال السياسية.
     إن الكوميديا المعاصرة حول إتساع الحرب النووية, مثل عمل "إيفان ريتمان" المروع (ضربات العصا – 1981) وفيلم "جون لاندس" المخيب للآمال (جواسيس مثلنا – 1985) لن تستطيع أن تتبارى مع فيلم "كوبريك" على الرغم من إحتواء فيلم "لاندس" على أن موضوعة الحرب النووية لم تزل غامضة وغريبة, وذلك يزداد كلما عُرضت بغرابة! والأفلام التي تحاول الإبتعاد عن هذا المصير, وتحاول قراءة الموضوعة برزانة وقوة, تبدو مفتقرة لمفردات ولغة مجازفة, كي تستطيع إتمام مهمتها تلك بعدالة تامة.
     إن الإنطباع القوي الذي تركه في الذاكرة الفيلم التلفزيوني للمخرج "نيكولاس ماير" والذي إكتسح بشهرته أوساطاً شعبية كبيرة وحمل عنوان (اليوم التالي) يجعلنا نتذكّر للفيلم لمساته الذكية حين أظهر واحدة من المتاعب الناشئة عن الإنفجار النووي, حيث يفقد الإنسان شعر رأسه (شيء مضحك بالمقارنة مع الموت الشاسع) فإن تلك الروحية التهكمية, حافظ على إدراجها الفيلم ضمن فواصله على الرغم من ضآلة تأثيرها وسط كل مصاعبنا ومتاعبنا الكبيرة, والأفلام التي إهتمت بملامح ووقائع ما ستكون عليه الحرب العالمية الثالثة, عديدة وسبقت الإشارة لها, ومنها أيضاً فيلم المخرج "جون ميلز" الذي تناول الحرب من خلال الدولتين العظميين وغرابة فيلمه (الفجر الأحمر) تقوم بالأساس على (طبيعة) الحرب قيد النشوب! وقد حاول المخرج جهده في إظهار العمل بما يفوق كل ما سبقه, ومحاولته إنطبعت في قراءة كوميدية تهكمية حول مشاعر (عصاب الإضطهاد) عند الأميركان, إن الشخصيات الكرتونية للأعداء التي ظهرت في الفيلم تخبرنا قليلاً عن ذهنية الأميركي الذي يرى عدوه بتلك الصورة والتعابير المُبتذلة.

صحافة – حرب
     كما إن واحداً من الأوجه الممتعة لأفلام الحرب في الثمانينات هو التقديم الفخور ومشاعر الإمتنان لدور الصحفي – المصور وبإظهاره بهيئة تقترب من صورة البطل وهناك أسباب عديدة تقف حقاً وراء صعود تلك الهيئة البطولية, فهي حقيقة ثابتة تُعلن عن كون المُشاهد يبدو أكثر إقتناعاً بما يقوله المراقب الذي يعاين الحرب (عين محايدة) من تلك التي يعلنها شخص موالٍ كما هي حقيقة أخرى في إقتراب المخرج من الصحفي – المصور, فمحاولتهما مشتركة أساساً وكلاهما يحاول العثور على جوهر الحقيقة وإنضاج ذلك عبر إستخدام الكاميرا الحساسة جداً التي تطلق بإستقامة أيضاً وكأنها سلاح فعّال.
     وهناك ثلاثة أفلام في الثمانينات, هي خير من يمثل (إستخدام المراسل الحربي في أحداث الحرب) ودوره البطولي الصاعد فيها وهي: (تحت النار – 1983), و (حقول القتل – 1984) و (سلفادور – 1986).

(تحت النار) ... موضوعية الصورة
     إن موضوع النزاع في فيلم (تحت النار) يدور في "نيكاراغوا" ومفتاح الحدث الدراماتيكي, هو قيام المصور – الصحفي "الممثل نيك نولت" بتزييف صورة فوتوغرافية وهي خطوة غير مباشرة أسهمت بإسداء خدمة لنضال الثوار ضد "سوموزا" وصورته تلك إشتملت في جوانبها على إدانة واضحة لدور السياسة الأميركية الخارجية في نيكاراغوا – وتلك كانت وقفة شجاعة لفيلم, ضد تيار الصناعة الفيلمية المحافظة – .
 

ملصق فيلم "تحت النار": الصحافي في حقل الالغام
 
وفيلم (تحت النار) أظهر الكلمة والفكر المعارضين عبر شخصية الممثل "جان لوي ترينتيان" وأعطاها الفرصة للحركة والتعبير والصعوبة الكامنة في موضوعية الصحافة, قدّمها الفيلم في معضلة ناضجة وأصيلة (حين كانت القضية في العديد من أفلام الحرب تُعرض باسلوب سطحي وبتعابير سهلة جداً) وإستطاع الفيلم أن ينجح في إقامة موازنة ما بين مستوى تعبيره الشخصي والقصة السياسية التي تفترض نوعاً من الوضوح, إن الأداء والمظهر الباهر لكل من "نيك نولت", "جوانا كاسيدي" و "جين هاكمان" وفّر للفيلم فرصة رائعة لإنجاز كل ما كان يريد إبلاغه, وهناك أيضاً الأداء الذي لا يُنسى ( كأنه نقش على حجر) الذي قدّمه "إد هاريس" كمرتزق أميركي مراوغ وعنيف وظهر على حد تعبير الفيلم ممثلأ للقدرية والبراغماتية التي تتصف بها سياسة بلاده.
حقول القتل: صورة للرعب الشامل
     أقل إثارة للرعب كان ظهور فيلم (حقول القتل) من تلك التي حققها فيلم (تحت النار) وذلك ليس عائداً للتقنية العلمية – التي كانت على جانب كبير من الديناميكية, لكنه بسبب الإبهام والغموض السياسي لموضوعه فهنا, البطل الصحفي سيدني شانبرج "الممثل سام واترسون" الذي يُجبر على ترك دليله الكمبودي في جحيم حرب أهلية, إن الفيلم يقدم صورة عمومية لرعب الحرب دونما إثارة للجدل حول تفاصيل الجوانب (الصائبة والأخرى الخاطئة) في حرب خاصة كالتي يصفها الفيلم ... إنه يبدو مشابهاً لفيلم رفقة في السلاح ولكن بشخصيات نُزع عنها الموقف الإيديولوجي.


مشهد من فيلم "حقول القتل": ما تخلفه الايديولوجيات المتطرفة وانظمتها الديكتاتورية
 
 وبينما كان سيدني شانبرج يجمع معلومات رحلته العجائبية في كمبوديا (نال عنها جائزة البوليتزر) كان هناك أيضاً ريشارد بويل الممثل "جيمس وود" في فيلم المخرج "أوليفر ستون" والذي كان بعنوان (سلفادور) وكان قد أتم رحلة سبقت الأول في ذات المنطقة ومنها إنتقل الى بقعة أكثر سخونة في السلفادور, وكان فيلماً أكثر حدة وصعوبة من (حقول القتل) و (تحت النار) فالأداء الممتع والظهور الكبير للممثل "جيمس وود" ساعد الفيلم على تجنب النقّاد, وقدّم الفيلم البطل الصحفي بهيئة  لا تخلو من رومانسية, إنه من الشجاعة بمكان لفيلم مثل (سلفادور) لإظهاره لتلك الخطوط المتشابكة والمتداخلة ما بين السياسة الأميركية وطبيعة الحكم في السلفادور وتلك الشروخ الواضحة في جسد نظام يمضي نحو الإنهيار, ورؤية تفصيلية كهذه وفّرت للفيلم تجربة أنضج وصراعاً أكبر مما في فيلم (حقول القتل) وكذلك نهايته, فهو ينتمي بما يشبه حالة (الهيولى) واللاتكون وهناك أيضاً اليأس والقنوط, بينما إختار "رونالد جوفي" مخرج فيلم (حقول القتل) نهاية سعيدة بطريقة ما لفيلمه بينما راح (سلفادور) يبعث في العروق ما يجعل الدماء تتجمد تبعاً للإثارة وقوتها.

أفلام الحرب تحاور الماضي
     وفي إثنين من أفلام الحرب في الثمانينات هناك خطوة في الحوار مع الماضي, فمن أحدث الأفلام التي حظيت صورتها بحيوية وإشراقة بالغة ونهضت وسط الحرب, كان فيلم (الثورة – 1986) للمخرج "هوج هودسون" (الفيلم من تمثيل آل باتشينو ... ومحوره إعتمد تفاصيل من الثورة الأميركية ضد السيطرة البريطانية), والفيلم المعاصر الآخر الذي إعتمد (ثيمة) الحرب هو فيلم (ران – 1985) للمخرج الياباني الشهير "أكيرا كوراساوا" الذي إعتمد معالجة سينمائية لعمل شكسبيري ... وفيه أظهر تلك الإنفعالات والحركة التدميرية لبطريرك معمِّر وإمرأة مجنونة يتصاعد الإنتقام في روحها, ومن ثم يعود ذلك بدائرة من العنف الرهيب الذي لا يهدأ, إن المخرج "كوراساوا" يقدم صورة لقيامته البشرية في فيلمه (ران) – رجل أعمى يترنّح صوب جهنم – وهذا كمشهد عنيف يستمد من المنطق المأساوي لهيروشيما وناكازاكي.
     إن عنفواناً كهذا تطلع به السينما يجعل منها دعوى مسؤولة تناقش الحرب وجدوى السلام, تلك القضية التي تبدو الآن مُلحّة أكثر من أي وقت مضى.



 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM