علي عبد الأمير
من محاولات تميّزت بالجرأة بدأ المشروع الإذاعي FM بغداد في الأول من تموز 1980 وعلى الرغم مما يكتنف أية خطوة اولى من احتمالات للتعثر لكننا عرفنا تجسيداً للمشاريع الثقافية ذات الإتصال الواسع, وهذه المرة بمتغيرات من فهم للإنتاج الغربي من الموسيقى والأغنيات بالتحديد .. ونحن بذلك لم نكتشف بدعة! فهناك مثل هذا النوع من البث الإذاعي المُقام على تقنية عالية في كثير من بلدان العالم ومنها ما يجاورنا (الأردن والكويت) على سبيل المثال. لكن الجديد في تجربة هذا البث عندنا جاء من خلال الذائقة التي تحكم عمل الإذاعة والإنتقاء البالغ العناية لما يقدم من موسيقى وأغنيات, فجاءت الساعات الأولى من البث الصباحي والمسائي وهي تعلن عن تماس سليم مع الإنتاج الغنائي والموسيقي, غير ان هذه الإشارة لم تتواصل فجاءت الشهور التالية وبالذات في عام 1981 لنجد عبرها الإذاعة وقد أصبحت مجرد إعادات وتكرار لركام غير محدد من الأغنيات, خليط من الجيد والرديء يُقدم في ساعات متواصلة دون تقطيع أو سمة برامجية ودون تعريف حتى بتلك الأسماء أو الظواهر الغنائية ... وتغيّر الحال بطيئاً في عام 1982 فظهرت برامج كالتي تعنى برسائل المستمعين الغنائية ... وإختياراتهم الغنائية, او التي تحاول ان تنقل الجديد في العلم والفن بتعليقات بسيطة تتخللها فقرات غنائية ,,, وكان عام 1983 هو الإعلان الحقيقي عن ولادة هذا المشروع الجميل فجاءت البرامج المتعددة والطريفة والتي تحاول ان تتصل بالمتذوق المحلي أو الأجنبي وعبر توفير عامل إغناء مهم لتلك العلاقة ألا وهو المكتبة الموسيقية الحية التي تحرص على إقتناء الجديد والمهم من الموسيقى والأغنيات وتقديمها عبر برامج تُغني المادة بالإشارة الدقيقة والمعلومة الصحيحة أو التعليق المناسب وذلك تم أما بتقديم اسطوانة كاملة وبأغنياتها العديدة ولفريق أو اسم غنائي ضمن برنامج واحد يتجدد تبعاً لموقع الأغنيات في لائحة الأغنيات الرابحة تباعاً, او بتقديم ساعة من الأغنيات الجديدة دون النظر لما تحققه من رواج تجاري, والمسيرة البرامجية لم تتوقف عند هذه الإتجاهات الثلاثة, فإستمعنا الى برامج الموسيقى الكلاسيكية التي قدمت العديد من الأعمال المهمة وبشروح وتعليقات تاريخية ونقدية, كذلك قدم ذات البرنامج وبجرأة تُحسب له عدداً من الأعمال الموسيقية المعاصرة المكتوبة خارج الأسلوب المقامي (الموسيقى الإليكترونية) ووفر برنامج (جلسة الجاز والبلوز) فرصة طيبة لمتذوقي هذا اللحن الرصين للتعرف على مبدعيه والإستمتاع بألحانهم, واُضيف لاحقاً برنامجاً يعنى بنمط آخر من الألحان ألا وهو (اللحن الريفي – الكانتري) واستمعنا الى الأغنيات القديمة والحديثة المكتوبة موسيقياً ضمن أسلوب اللحن الريفي المعروف بما يثيره من روحية شفافة وإيقاعات ناعمة ... وكانت علاقة الإذاعة تتوطد مع المتذوق للألحان عبر البرنامج الذي سبق ذكره (رسائل من كل مكان). والبرنامج الذي لم يتواصل للأسف وهو (أفضل الأغنيات ومن اختيار مستمع) وفكرة هذا البرنامج وتنفيذه تعطي حقاً صورة عن الجهد المبذول من قبل الإذاعة وانعكاسه عبر الإختيارات التي يقدمها المستمع وبالتالي يعني كم أثرت فيه الإذاعة وكيف بدأ يفهم الأغنية وموسيقاها ... وان كانت المحاولة لإعادة تقديم البرنامج غير متوفرة, فالفرصة تبدو وبفائدة أشمل متوفرة لتقديم برنامج عن (أفضل الأغنيات الغربية تداولاً في بغداد) يقدم بشكل اسبوعي وتتنافس فيه الأغنيات بشكل دوري على مركز الصدارة ... انها فكرة واعتقد ان في عائلة الـ FM من الجهد الشاب والدؤوب مَن سينجز هذه الفكرة سيما ان هناك محاولات طيبة في تقديم البرنامج سابقاً (قُدم في نهاية عام 1986) ويبقى ان نشير لفوضى ساعات المنوعات التي ازدادت مع زيادة ساعات البث اليومي من 7 ساعات الى 12 أو 14 ساعة, فهي تضم أغنيات وفي حدود ساعة يختارها اسم من العاملين في الإذاعة ولكنها تأتي مكررة مما يبعث الملل ويؤدي الى إفقاد الأغنية حيويتها, وإستجابة الضرورة ان تجد في هذه الإذاعة إنعكاساً لأحداث ثقافية محلية تعطي الأجنبي صورة عن طبيعة الحياة عندنا وإزدهار جانبها الروحي بالتحديد جاء البرنامج المخصص لغرض الأنشطة المحلية وبطريقة ذكية من التلميح والإشارة اضافة الى وجود أغنية محببة أو اكثر, ان هذا البرنامج (أحداث) من الممكن ان يوسع غايته في عرض النشاط الفكري المحلي عبر تقديم بعض من الأعمال الموسيقية المحلية وبالذات تلك المكتوبة بتوزيع موسيقي جيد وبأداء عزفي متميز يعطي الإنطباع المرجو عن نتاجنا الموسيقي والغنائي, كما ان البرنامج المسائي القصير (دليل الـ FM) يوفر سياحة لكل البرامج والأنشطة الفنية المقدمة من الإذاعة ذاتها او دور السينما والتلفزيون وفي إعادة بث البرنامج من الممكن ان نجد دليلاً يساعدنا على معرفة ما سنستمع اليه من أغنيات وكذلك للأجنبي كيف يقضي سهرته. ان جهد السنوات الثماني تلك ليثمر في كل الساعات الكثيرة من المتعة والفائدة, متعة الموسيقى والأغنيات وما يمنحه عالمهما من توسيع للأذهان والمدارك فثمة اللغة والأنماط الموسيقية والأجواء التي تحاول دائماً ان تعبر عن حالة انسانية, وهذه الميزة أكدتها الإختيارات لما يقدم من الحان فإبتعدت الإذاعة عن تلك النماذج الرخيصة والتي تستهلك الذوق ولا تدعمه, والإذاعة بتوفيرها الأغنيات التي تعنى بالإحساس وتزيد من لمساته عند المتذوق تكون قد أبعدته عن تأثيرات الإذاعة الأجنبية حين يكون محباً لأغنياتها والتي تقدمها دائماً وسط أجواء فكرتها الدعائية الخاصة, انها رفقة مع الأغنيات واللحن الجميل, صداقة مع مشاعر روحية مرهفة وكل ذلك عبر جهد مجموعة شابة فهناك الزميل د. مهيمن نوري جميل الذي يقدم موازنة رائعة بين عمله كطبيب ومتذوق متميز للأغنيات, وعبر برامجه الثلاثة (نقطة ضوء على مجموعة غنائية), (أفضل أغنيات العام), (أغنيات قديمة), ويرافقه على لوحة الإخراج المهندس صباح هاشم أمين الذي يختار هو الآخر ساعات من الأغنيات هي تنويعة طيبة من الأحاسيس, ولا بد من ذكر تلك اللمسات القوية التي تركها في الإذاعة وطبع من ذائقته عدداً من برامجها, (رعد دراز) الذي انشغل عن مواصلة تقديم أعماله لسفره خارج القطر, هذه المجموعة الناشطة والتي تضع مدخلها الى الأغنيات والموسيقى عبر التذوق الشخصي والمحبة الوفيرة للعمل, وجدت من حسن الإدارة التي توفرها السيدة (شميم رسام) ورعاية السيد عدنان الجبوري في ما يدفعها الى مواصلة مشوارها, مبارك لهذه الإذاعة الفتية عيد تأسيسها الثامن ولعل فصولاً تالية من المشاعر الإنسانية التي تمنحها الموسيقى والأغنيات نتمنى ان نلتقيها وهي بأفضل حال.
*مقالة نشرت في صحيفة "القادسية" 30-6-1988
FM بغداد آخر الأيام الجميلة ... علي عبد الأمير تميّزت إذاعة FM بغداد – وفي أكثر من مرة نوهت هذه الصفحة بذلك – بنشاطها المكثف والمبدع وحسن متابعتها لكل ما هو جديد وأصيل في الأغنية والموسيقى الأجنبية, فبالإضافة الى ساعات المنوعات الغنائية كانت هناك البرامج التي تتابع الأحداث الموسيقية والغنائية العالمية وتقدمها بطريقة تكشف عن ذائقة متقدمة جعلت المتابع والمتلقي المحلي لهذا النوع من الفن يجد نفسه وسط آخر موجة شهدها الفن الغنائي العالمي, وفي ذات الوقت الذي يمتلك فيه ودائماً عبر هذه الإذاعة من العودة لذكريات طيبة بصحبة أغنيات من الستينات والسبعينات ولأشهر الأسماء الغنائية المعروفة آنذاك والتي ساهمت في تلوين أحلام شباب تلك الأيام, التنظيم الحسن لتقديم الأغنيات والموسيقى ضمن حدود تعرف وتقول بعض النقد, اختفى من هذه الإذاعة التي عُدت كأنجح اذاعة بين زميلاتها في دول عربية مجاورة, إختفى للأسف منذ شهر نيسان الماضي واختفت البرامج لصالح ساعات مطولة من المنوعات الغنائية, وهذه تميّزت بفوضى اختياراتها وانعدام الذائقة المتوازنة التي تقف خلف جمعها بعضاً الى بعض. اختفى برنامج (نقطة ضوء على مجموعة غنائية) الذي يُعرِّف بمجموعة كاملة تحقق نجاحاً بعد فترة قصيرة من صدورها, كذلك أصبح برنامج (أغنيات العام المفضلة) والذي يطوف بالمستمع على عواصم الغناء في العالم ليقدم أفضل ما في لوائح الغناء فيها, الأغنيات القديمة ضاعت مشاعرها مع البرنامج الذي يقدمها واختفى هو الآخر. أهناك إذن إذاعة ناجحة تفرط بعناصر نجاحها بهذه الطريقة؟ وحين سألنا, وجدنا الجواب: الإذاعة كهيكل تنظيمي أبعدت العناصر التي ترتبط معها بالفعل وفق نظام الأجور وأبقت على الموظفين الدائميين, ولكن يبدو ان العناصر الفاعلة في تلك الإذاعة هي التي شملها الإبعاد, ومع إعتزازنا بجهد مَن احتفظ بوجوده لكننا – كمتلقين ومع بعض الذائقة النقدية – نقول: ما كنتم بحسن الأداء الذي يُمكِّن الإذاعة من البقاء ضمن ذات المستوى المتطور دائماً, إذن الإجراء الإداري هل سيبدو عليه كثيراً ان يراعي الظرف الفني؟ لا نجد هذه العملية صعبة ومن شخص عُرف بديناميكية تعامله مع وقائع الإذاعة والتلفزيون عموماً كالأستاذ (سعد البزاز), إن أياماً جميلة هي تراث هذه الإذاعة الناجحة بدت وكأنها شبه ضائعة, ويظل الأمل في إعادة التعاون مع الكادر الغائب ومرة اخرى لا يبدو ذلك صعباً للغاية, إنهم مجموعة من الشباب قدموا الكثير للإذاعة, ووفاء لتلك الأيام ومن أجل الإذاعة التي نحب وأحبوا أيضاً, سنظل على موعد متجدد عبر موجة الـ FM, كي لا نقول وداعاً للأيام الجميلة من إذاعة ستُنهي مطلع تموز القادم عامها التاسع.
*مقالة نشرت في صحيفة "القادسية"15-6-1989 واثارت ردودا من ادارة الاذاعة والمؤسسة العامة للاذاعة والتلفزيون .
|