نقد فني  



صورة عراقي: جواد الأسدي.. عطش لايتنهي لـ(دجلة الروح)

تاريخ النشر       20/10/2009 06:00 AM


علي عبد الأمير*
 
من النادر ان اشتعل فنان او او اديب او مفكر عراقي ممن انتظموا في مهمة الإنتصار لضوء بلادهم ، في حريق الوطن وفكرته مثلما اشتعل المخرج المسرحي جواد الأسدي وادرك وبكى . يكفيه في هذا الشأن ان جذوة عروضه المسرحية وقلقلها يأتيان من جذوة في طين العراق وقلق في انسانه ، ويكفيه انه مهما ذهب الى اوطان قائمة فعلا او متخيلة ( الأوطان التي يتخيلها المسرح ) فانه لايحضر غير ذلك العراقي العطشان لمياه وطنه ، ذلك الذي يكاد ان يجن حين يجد الطريق مقفلة الى بلاده الأولى . انه مازال بعد ازيد من ربع قرن علىآخر مرة اطل فيها على دجلة هوذاته الذي مشى على ارصفة يأتي فيها الضوء عطرا في الوزيرية حيث اكاديمية الفنون الجميلة التي درس فيها وشهدت فيه ومضة الجمال واختمار السؤال ، هو ذاته الذي فتنت لوسامته ولقصائده وصخبه اللذيذ ، اميرات الحرية العراقيات ايام كانت البلاد في اوائل سبعينيات القرن الفائت تمضي نحو مصالحة اولى مع ضميرها ، مع ترابها وانسانها ، وحين كانت الحياة مفتوحة على الف مدى واحتمال ، هو ذلك الذي انتفض مع الشاعر بابلو نيرودا في نصه المسرحي " تألق جواكان موريتا ومصرعه " وابدع دورا هو اقرب الى الدرس في التمثيل ، وهو ذاته الذي اربك الإيقاع في " مسرح بغداد " حين صاغ في مسرحية " العالم على راحة اليد" عرضا كالحب ، فاتنا وشهيا ومتدفقا وشجيا ، يقبل القراءة المفتوحة مثلما هو عميق كالأسرار.

 
جواد الاسدي (كاميرا علي عبد الأمير)
 
كانت سنوات المنفى الأولى عند جواد الأسدي مرادفة للجدوى المعرفية ( رحل الى بلغاريا للدراسة العليا في المسرح )، وتحولت السنوات اللاحقة مدخلا لصداقة عميقة مع الألم ، فالكارثة " كشفت عن ساقيها " واذا كان لابد من شوق ينبثق ، فلينبثق على ارض المسرح وفضائه ، ولتكن الرؤى والمفاهيم والحيوات المشتبكة على الخشبة ، رؤى وصورا عن الوطن . هكذا صار المسرح ( فرقة المسرح الفلسطيني ، فرقة المسرح القومي في سوريا ، عروض في عمان ، في بيروت ، في القاهرة ، في مراكش ، في ابوظبي و في غير عاصمة اوروبية  ) وطن جواد الأسدي ، وهكذا انتظم العراق في الضوء ، في اللغة ، في وحشة الممثل امام سؤال وجوده ، وفي الإيقاع الذي تنتظم في العروض ، ايقاع تأخذك فجيعته الى مرجعيات الفجيعة العراقية بكل فصولها.

من اجواء عرض للاسدي
 
ولأن الأسدي" ظل يجاهر بإنبات زهرة المسرح" على الرغم من ان المسارح العربية لاتعرف الولاء للذاكرة المسرحية الرصينة والتأسيسية ، فهو يظل في موقع السؤال : اين البلاد من كل هذا الزمهرير ؟
" دائما ، اسال نفسي بعد كل هذا الزمهرير المسرحي هل بلادي مازالت هي البلاد ؟! أم ان ازدهار البلاد بالثكنات والمخبرين والجستابو من ابناء وطني أضاع علي طعم البلاد ام انني صرت رمل البلاد " .
العرض المسرحي عند الأسدي مؤهل لمهمة مقدسة ، مهمة توثيق الألم ، فلا تاريخ مؤثرا غير ذلك المكتوي بنار تطلعات الناس الى اثبات ملامحهم ، والى الأنسجام مع معيوشهم ، العرض المسرحي عند الأسدي مفتوح على روحية عراقية لافكاك منها حتى وان كان يمسرح الفرنسي جان جينيه او النرويجي هنريك ابسن أو السوري سعد الله   :
"في راس المملوك جابر ومن خلال شحصيات المقهى ، بنيت شخصيات بغدادية حافلة بالتوق والحنين ، اطلقت من خلال الحكواتي الحكايا المجبولة على اداء عراقي ونبرة عراقية وجسد عراقي يضج بالفتنة والعذاب ".

 ولد الأسدي في كربلاء العام 1952 ومن مواكب احزان الشيعة على امامهم القتيل( الحسين بن علي بن ابي طالب عليهما السلام ) تعلم الدرس الأول في تشكيل الفجيعة عبر مشاهد متتابعة تنتظم في بنية حكائية . ومن فجيعته العراقية الى الفجيعة الفلسطينية حين اسس الأسدي بعد عودته من بلغاريا " فرقة المسرح الفلسطيني " ومع عروضها للفترة ( 1980-1992) كان قد رسخ تجارب ناضجة ابرزها " العائلة توت " العام 1983 و " خيوط من فضة "العام 1985 في مهرجان قرطاج و" الإغتصاب " العام 1992 .

علي عبد الامير ولقاء جديد مع الاسدي
 
بعد دمشق وتجاربه فيها ، كانت مرحلة " مسرح بيروت " وفيها تشكلت رؤى  وانتقالات في مسرح الأسدي لجهة التعبير الحر ولجهة تقديم مسرح لاينشغل بالتحديث على انه شكل عجائبي بل لكونه اشتغالا على الجانب الإنساني(الممثل عنده يمثل مصدر الإشعاع الجمالي) وفق الحيز الخلاق مابين الفن وبين الحياة ذاتها .
ومن بيروت الى ابوظبي حيث يقيم الأسدي هذه الأيام، انبثقت عروض لصاحب " إنسوا هاملت " بين مصر والمغرب والسويد وبلجيكا واسبانيا ، ولتبدأ مع عروضه في العواصم الغربية تحديدا مرحلة من عروضه المسرحية القائمة على صوغ مشهدية لاتستعير لغة بصرية غربية انما تخاطب المتلقي اعتمادا على تدفق في المصائر الحارة ليس صعبا تحديد مرجعياتها العربية .
جواد الأسدي هو كاتب نصوص مسرحية من طراز رفيع، وتكفي مراجعة لنصي " إنسوا هاملت " و" حصان الليلك " اللذين ضمهما كتاب صدر عن دار الفارابي في بيروت العام الماضي لتظهر انهما يأخذان موقعا بارزا في الأدب المسرحي ، مثلما يشيران الى ظاهرة المخرج- الكاتب عند الأسدي الذي لطالما " فتك" بالنصوص المسرحية وأحالها الى رؤية اخراجية ليست بالضرورة مأخوذة بفتنة النص ولغته ورؤاه .
مشروع جواد الأسدي المسرحي نوع من العرفان لـ" دجلة الروح " ، لعباءة الأم المطرزة بالرازقي ، لسؤال المعرفة الأول ، للإنكسار الروحي العميق ، لشهقة الفرح الطفولي، ونوع من اعادة الإعتبار للفعالية الإنسانية في سؤال الفن والأدب .  
    
* النص مكتوب العام 2002 ونشر في الملحق الثقافي لصحيفة " الراي" الاردنية


 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM