نقد فني  



الفن والعنصرية ... منطقة تقاطع النيران

تاريخ النشر       03/07/2010 06:00 AM


علي عبد الأمير

 مجزرتان في فترة قريبة, وكالعادة الضحايا من السود والنار جاءت من أصحاب البنادق البيض ... مجزرتان بددتا (وهم) التحولات الجديدة في جنوب إفريقيا حيث بادرت الجهات الغربية للإعلان عن ضرورة الكف عن وصم النظام الحاكم في جنوب إفريقيا, بالعنصرية ... كونه بدأ سلسلة من الإجراءات ستُنهي الفصل العنصري الذي يحكم الحياة هناك منذ فترة طويلة وأنتج تاريخاً من الكراهية والبغضاء وأجيالاً من الضحايا, وعلى الجانب الآخر انتجت تلك الحياة إتجاهات فاعلة عملت بجهد دائب لإظهار ظلامية تلك النظرة وتخلفها وسجلها الإجرامي البشع ... إتجاهات حمل لواءها مناضلون وحركات تحررية, ليس ببعيد عنها ما يعنيه إسم "نيلسون مانديلا" – ربع قرن من الإعتقال – و(المؤتمر الوطني الإفريقي) الذي قاد الأنشطة التحررية للأغلبية السوداء في جنوب إفريقيا ... نتذكر أيضاً, مشاهد الإحتجاج الجماعي في ضواحي المدن الكبرى, "سويتو" و "كيب تاون" ... نتذكر الأناشيد المرافقة للتظاهرات, وقوة القبضة السوداء حين ترتفع بشكل جماعي كعلامة على الوجود في كل مرة يغيب فيها العشرات تحت التراب جراء القتل الجماعي الذي كانوا يتعرضون له أثناء المواجهة مع الشرطة البيضاء.
     إزاء كل المظاهر الفاعلة والقوية من الإحتجاج كانت تنشط الثقافة الوطنية الإفريقية التي تضرب في جذورها الى أعماق التاريخ, الثقافة التقليدية بطابعها الوطني التحريضي كانت تتنفس هواءها في مظاهر الإحتجاج وتعزيز الصمود, وإثبات الذات أمام تيارات التلفيق والتحديث القائمة على مصادرة الطابع الشخصي الحميم في تلك الثقافة ... وقوة تلك الثقافة الإفريقية ومصادرها العريقة كفلت لها البقاء رغم محاولات الإلغاء للذاكرة وإدخال اللغة الوطنية في مشاهد المعاصرة القائمة على تعليب الذاكرة والذائقة الأصلية وتحويلها الى مرايا منعكسة للقادم من الغرب والإستهلاكي المُبهر منه بشكل خاص والإستعراضي المثير ... كل هذا لم يستطع ان يدفع الثقافة الوطنية الإفريقية الى الإنتقال من أرضها الصلبة والواثقة – الإندراج في مهمة التعبير الإستهلاكي الخفيف الدم, لكنه ثقيل الوطأة في عمقه البعيد, هذا لاحقاً لعمقه الإنساني جعل اتجاهات من الثقافة الغربية المعاصرة تأتي الى عالمه الفاعل, فهناك أسماء في الموسيقى والغناء والسينما على سبيل المثال, دع عنك كتّاب الصحافة والذين يضعون عينهم على جائزة مثيرة مثل "البولتزر", بدأوا يأخذون موضوعاتهم من تلك الأساطير اليومية التي تكتبها (القبضات السود) علامة التحدي والوجود, قصص وقصائد ومسرحيات ... ودعوة على الملأ للإحتفاء بذلك الأدب الذي تابع تلك الصيرورة, وإندمج في مهمة التعبير الفني عن يوميات المعاناة والتهشيم التي تنتجها (وقائع) الفصل العنصري البغيض ... نتذكر هنا (جونا) أعطني الأمل ... الأغنية الإفريقية الإيقاعات التي غنّاها (إدي غرانت) عام 1988, والتي كان يرسم من خلالها صورة لمدينة ستخرج من ملامحها المدماة لتكتسب معالم الحياة الحرة البسيطة ... الأمل كان هنا فاعلاً و (جونا) هي المرأة / المدينة التي أحبها المغني حيث جذوره ومعاني الوجود الذي ينتسب إليه ... في تلك الفترة أو ما يقابلها بقليل كان المغني (بول سايمون) قد ذهب الى كيب تاون وإختار فنانين شباباً من الموسيقى الوطنية لجنوب إفريقيا وعلى إيقاعات موسيقاهم أنتج عدة أغنيات في إسطوانة حملت عنوان "غريس لاند"

بول سايمون "الافريقي": جوهر انساني في الموسيقى المعاصرة
 
... تلك الأغنيات لغرابة إيقاعاتها وللفكرة التي عمل ضمنها (بول سايمون) أثارت ضجة كبيرة وأصبحت مثار جدل لا ينتهي لأنها هشّمت الشكل المعتاد لأغنية البوب الشائعة ... ولأن (بول سايمون) صاحب تاريخ طويل من الغناء والألحان وله سيرة مهمة في هذا الشأن, باتت الأغنيات وفريقها الغنائي المكوّن من شبّان الجنوب الإفريقي الذين إعتمدوا كما قلنا القالب الموسيقي التقليدي والوطني, ما يشبه السفير الجوال الذي يذكر بقوة فاعلية الثقافة الوطنية التقليدية وقدرتها على التحرك ضمن أكثر الإتجاهات الفنية شعبية في الغرب ألا وهي موسيقى البوب.
     (بول سايمون) يعود هذه الأيام الى جنوب إفريقيا تحت تأثير الأنباء المتسارعة التي تعلن عن تحولات جذرية في طبيعة الحياة التي تحكم هذه المنطقة الساخنة, حيث الفصل العنصري تتقلّص فاعليته وثمة تغييرات في العلاقة المتوترة بين الأبيض / الأسود, بين دعوات مباركة هذه الإتجاهات ونيّات التشجيع لتلك المحاولات, كان سفر "بول سايمون" ورغبته في تأكيد ما بدأه قبل أعوام من الإفادة من الثقافة الوطنية في الإعلان عن الطابع الإنساني لحركة النضال الوطني ضد أساليب الفصل العنصري ... تلك المحاولة قوبلت من لدن زعماء الحركة الوطنية الإفريقية بالبرود واللامبالاة أحياناً بل ذهب البعض الى وصف "بول سايمون" بأنه أسرَعَ الى وصف هذه التغييرات بأنها نهاية للفصل العنصري وإن مثل هذا الوصف يصب في فائدة الحكومة العنصرية ويسبغ عليها صفة التحضر والإنسانية وهذا يحتاج الى عمل دائب ونتائج ملموسة, وكانت المجزرة التي حدثت قبل أشهر كفيلة بلجم محاولة "بول سايمون" في إقامة تظاهرة موسيقية غنائية للتبشير بحركة التحولات في طبيعة الحياة في جنوب إفريقيا ... النتائج ذاتها وصلت اليها محاولة النجمة السوداء "ووبي غولدبيرغ" التي نتذكر أفلامها العديدة ومواقفها أيضاً ... ومنها ذلك الدور المؤثر في فلم "اللون الارجواني" الذي أخرجه "ستيفن سبيلبيرغ" وعرضه التلفزيون العراقي قبل فترة ... هي جاءت الى جنوب إفريقيا لإنتاج عمل فني هناك, ومن خلاله أظهرت مباركة للتغييرات التي بدت وكأنها ستطبع الحياة في جنوب إفريقيا, هذا إعتبره المشتغلون في الثقافة واللغة الوطنية في جنوب إفريقيا, إستباقاً للحقائق, والفن هذه المرة جاء يلهث خلف الأحداث لا كاشفاً ومنوهاً عن الحقائق "بول سايمون" و "ووبي غولدبيرغ" وقعا ضمن منطقة تقاطع النيران ... البيض يهاجمون اتجاهات منفتحة في الثقافة المعاصرة يمثلانها, والسود يعتبرون ما ذهبنا إليه هو سابق للأمور ويقفز على الكثير من الحقائق ... الفن والعنصرية على إفتراق دائم ... هذا ما تؤكده الحوادث الآن وسابقاً وغداً ... (سايمون) و (غولدبيرغ) غير نادمين على كل الذي فعلاه, ومرة أخرى عبر وسائل فنية أحرجا مراكز القوة في الفصل العنصري وجعلاها تسارع الى الكشف مجدداً عن أوجهها البشعة.
*مقالة نشرت في صحيفة "القادسية" 28-11-1992    


 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM