نقد فني  



رسام عراقي يوجه تحية عميقة للمتنبي

تاريخ النشر       20/10/2009 06:00 AM


لوحات غرافيكية للناصري تبدع قراءة معاصرة لوجدان عربي
 
اقام الفنان التشكيلي العراقي رافع الناصري ، منظورا بصريا معاصرا وهو يوجه تحية الى الشاعر المتنبي ، في معرض تجول بين عواصم عربية واوروبية .
وفي حين اكد الناصري على " معاصرته"  وهو يتصل بعلاقة فكرية وادبية رفيعة في التراث العربي ، فهو لخص مسارا من الوعي بأهمية الفن في التعبير عن الزمن  وطبعه بلمسات انسانية .
والجانب المعاصر في معرض الناصري " تحية الى المتنبي " تجسد في لوحات غرافيكية وزيتية اختارت التجريد ملمحا دون ان تتنازل عن فيضها اللوني المشرق وتدفق افكارها، لتبدو لوحات قرينة بعمق الفكر العربي وموروثه اللغوي والوجداني عبر ما يمثله المتنبي .

وحضور" مالىء الدنيا وشاغل الناس "  في لوحة الناصري الذي مثل ملمحا متقدما في جيل الستينيات التشكيلي والثقافي العراقي والعربي، لم يكن عبر مجرد الاستعارة لمقاطع مطبوعة من قصائد المتنبي (طبعة قديمة جدا لديوانه) او لحروف عربية هي من نتاج واحد من فناني الخط النادرين، بل كان الحضور يتم في نسيج لوني حار وارضي ومتشابك وله وقعه الطاغي  على روح المتلقي وعينه، كانه ذلك الوقع المتدفق لصور من شعر المتنبي، ولمسيرة انسانية وفكرية مثيرة للجدل ميزت صاحب " الخيل والليل …".

رافع الناصري في معرضه "المتنبي" بعمان (كاميرا علي عبدالأمير)
 
وما يحسب للناصري الذي صارت مسيرته الفنية، علامة على ابداع عراقي وعربي في فن الغرافيك ( الحفر ) ومعارضه في غير عاصمة عربية وغربية مؤشر على ذلك،  انه ادخل عمله الفني في معرضه الجديد، ضمن مسار ليس صعبا الاشارة الى عناصر الاختراق فيه عما سبق . فاذا كانت لوحة الناصري معروفة باتصالها مع دلالات الافق المفتوح وقراءة تطوراته البصرية المتسمة بالسعة والامتداد، فانها ذهبت الى اختزال في مساحةاللوحة وتكثيف في عناصرها .

هذا التحول بدا وكأنه قراءة مقصودة واعية لشخصية المتنبي، فازاء شخصية تتسم بالسعة الافقية ( الترحال و الانتقال البيئي والجغرافي والاجتماعي ) والعمودية ( التصاعد الفكري والبراعة الشعرية والتمرد الانساني )، اختار الناصري ان يقارب الموضوع عبر مساحة ضيقة ممتدة افقيا وضيقة عموديا في اللوحة. ولكن النسيج المكون لها، ظل زاخرا بكل ما هو مشغول باليد من تفاصيل تجدها ترتعش لفرط رقتها، ولبراعتها في صوغ علامات تقول في ان العمل قائم على نشاط وابتكار انسانيين،  وفي هذا خير تحية الى شاعر عربي ظل مؤشرا انسانيا برغم تقلبات الازمنة .

النسيج اللوني في لوحات الناصري نجح في نقل الاحساس الى ازمنة عتيقة لجهة تراكم احداثها واللون البني وتدرجاته يؤكد هذا الملمح، ليس عبر البعد الزمني وحسب، بل عبر البعد المكاني، فاللون قريب من تدرجات ارض العرب والشرق كتلك التباينات المكانية التي عرفها المتنبي في ترحاله المضني ، غير ان القصد لم يكن " توثيقا " عند الناصري، فهو المشغول ايضا برؤى عصره والانتماء اليها، لذا كانت خطوط اللون الابيض او الاحمر او الازرق  الخفيف، رعشات من عصرنا، ناهيك عن ان الشكل الفني  ( الغرافيك ) هو واحد من تجليات العصر في الفنون البصرية.
والتناغم عند الناصري ( استاذ الفنون لفترات  في جامعات الأردن والبحرين)  بين المعاصر والموروث، برز واضحا حين بدت اللوحات على الرغم من شكل انتاجها المعاصر فكرة وتنفيذا، كأنها وثائق تاريخية قديمة كالتي كان يخط عليها العرب القدامى مدوناتهم  .

وهناك كان الشكل معادلا موضوعيا لفكرة الناصري المكثفة عن المتنبي وعصره ورسالته، ولمسة عميقة في مدار بحث سال فيه حبر كثير، هو مدار الصلة بين الموروث والمعاصرة .
الاناقة في التصميم، الغنى في الفكرة والحذاقة في التنفيذ، كلها سمات تبهج  روح المتلقي وتخطف بصيرته في لوحات الناصري الذي عرفه المشهد التشكيلي الاردني اكاديميا ( درّس في جامعة اليرموك الأردنية ) وفنانا ( عدد من المعارض) وصاحب منهج في فن الغرافيك ( محترف في دارة الفنون وكتاب يوثق لجماليات الطباعة ).

الناصري : لست يائسا من قدرة الفن على التغيير

في معرضه "تحية الى المتنبي " قصد الناصري  اظهار لوحة غرافيكية حديثة فيها ملامح العصر، قدر ما فيها من ملامح عربية فكرية وثقافية موروثة .
وينوّه الرسام العراقي على هامش معرضه الذي افتتح في قاعة " اربع جدران " الأردنية الى انه معني الان بخلق لوحة تحمل عناصر جمالية شرقية و قال " الالوان براقة دائما في وقتها،  لكنها تتحول في ذاكرتنا الى الوان معتمة لتختصر بذلك التراكم الزمني، وفي لوحاتي الاخيرة، حاولت ان امزج مابين الالوان في مخيلتي وبين الالوان كما احسها الان " .
ومع " المزاج الشرقي" الذي يقيم احتفالا رفيعا لشاعر عربي مازال معاصرا على الرغم من القرون الطويلة على رحيله مثل المتنبي، فان الناصري يتلمس تاثيرات العصر وتقلباته بوعي وادراك عميقين،  ويتحسب لبواعث الفكر المعاصر وتاثيراته دون ان يرى في ذهابه الى الموروث "خلاصا نهائيا"، فلوحته تظل معاصرة، في الاسلوب والتنفيذ والرؤية ايضا، مؤكدا ان الجو المختلف لمعرضه الاخير لاينفصل عن المسار التصاعدي لتجربة " لا يشكل المعرض انفصالا عن كامل التجربة، بل هو استمرار التطور في الشكل واللون وبقية العناصر التطورية التجريدية، هنا فقط عدت لاستخدام الحرف العربي، كما هو سواء مطبوعا او مخطوطا " .


الناصري متحدثا الى علي عبد الامير
 
وعن انحسار قدرة الفن التشكيلي على التاثير في الذائقة الفنية،  وخفوت الدور الجمالي التحريضي للتشكيل يقول استاذ فن الغرافيك في جامعة البحرين :
"في تصوري، هناك سببان لمثل هذا الخفوت في الدور الجمالي، الاول ويتصل بالحال السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي شهدت تراجعا منذ اكثر من 20 عاما والثاني هو في ا نحسار اهتمامات الفنان الفكرية في الوقت الذي كان فيه محرضا على نشر الوعي الفني" .
و ردا على سؤال عن السبب في ضعف قدرة العمل الفني التشكيلي على الاتصال مع المتلقي حاليا، بينما كانت اعمال فنية عميقة قادرة على اقامة صلة مشتركة مع جمهور عريض قبل ربع قرن او اكثر، قال الناصري الذي درس الرسم والحفر (الغرافيك ) في بغداد و لشبونة وبكين :
" كل الافكار والمعتقدات ومنها السياسة، كانت اصيلة وتابعة من ادراك وفهم عميقين ،ومن صدق روحي ايضا . الان تحول كل شيء الى نتاج مستعمل " سكند هاند " لا اصالة فيه، ومنها الفنون،  وباتت الاشياء الحققية نادرة جدا، كل شيء اصبح سلعة للبيع، ومنها افكار الفنان " .
وينفي الناصري انه يشعر هذة الايام بمرارة تقارب الياس مؤكدا " نعم اشعر بكثير من الالم، ولكن ليس الانكسار على الاطلاق، وما تزال هناك على الرغم من الصحو الاجرد لاوقاتنا، غيوم تحمل الكثير من زخات المطر، بما يفيد الزرع ويحيي في الارض روحها الخضراء ".
ويرى صاحب التجربة الغرافيكية التي اهلته ان يكون مشاركا في لجان تحكيم معارض فنية عالمية عدة، ان "ملاذ الانسان اليوم، وعربيا بالتحديد، يقوم على قدرتنا في تعزيز البناء الداخلي  للانسان، ان تكون اقوى في مواجهة التهديد الصاخب الخارجي، فكلما كنا هشين داخليا كلما اصبح امر مواجهتنا للتهديد الخارجي ضعيفا ".


*نشرت المقالة واللقاء في صحيفة "الرأي" الاردنية على هامش معرض للناصري عن المتنبي.                                         


 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM