عمّان – علي عبد الأمير
كان رحيل التشكيلي العراقي محمد صبري في عمّان أليماً مثل مرض السرطان الذي أصابه ومثل المنفى الداخلي الطويل في بغداد والمنفى القصير في عمّان, وفي هذا المنفى راح يبحث عن فرصة لحياة أفضل, من دون ان يعلم أن في جسده قنبلة ستفجر كل آماله بالخلاص. والفنان صبري أحد الوجوه البارزة في المشهد التشكيلي العراقي المعاصر وكان أحد مؤسسي "مجموعة الأربعة" التي ضمته الى جانب الفنانين : فاخر محمد, عاصم عبد الأمير وحسن عبود, وتميّزت تجربته الفنية بعمق تعبيري عال كان نهله من أستاذه الراحل فائق حسن. وعندما أسس أعضاء "جماعة الأربعة" العام 1980 اتحادهم التشكيلي كانوا متقاربين نوعاً في طرح أفكارهم على رغم تباين أسلوب كل منهم. ومن بينهم كان الفنان صبري يتوخى اختزال أشكاله التي تطفح بالقهر الإنساني وقد غلف معظم موضوعاته المتناثرة على سطوح لوحاته الغارقة في العتمة والظلام ... ثمة رجال متوترون مستنفرون بملامح داكنة مصنوعون من مواد مختلفة, ثمة وجوه وخلايا يعيش فيها أناس في تجاويف المجهول يجيئون من ماض مندحر الى حاضر أبلغ اندحاراً.
عمل للراحل محمد صبري: خوف ابن بلاد الرافدين ورعبه ..أزليان
وعلى رغم انتشار أعماله في بعض بلدان العالم ظل في عداد "البلاك ليست" شأنه في ذلك شأن ملايين العراقيين الذين يُقابَلون بالريبة من سلطات أي دولة يسعون للسفر اليها, فيما كان ملاذه هو السفر وربما الهجرة الأبدية, ليترك أحزاناً وويلات اجتماعية كان عاشها بمرارة, ومنها مخاوفه من زجه عنوة في "الخدمة العسكرية". صحيح ان محمد كان منسياً عسكرياً لأسباب تتعلق بتحصيله العلمي (ماجستير في الرسم) لكنه ظل مسكوناً بهاجس الفرار من أي مؤسسة تنتمي الى مبدأ القتل في كل أشكاله, لا لكونه يخشى الموت بل لأنه وببساطة مرعوب من فكرة القتل واستباحة حياة البشر, ومن هنا ظل الراحل على مسافة من احتفال التشكيل العراقي بحروب الحكم ومعاركه التي لم تنته. في أحد جبال عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية, عمّان, اختار الراحل ان يقيم لينتهي بعد أسابيع على وصوله من رسم اربع لوحات هي امتداد لسيرة أعماله, وكانت بمثابة "دراسة لونية. مساقط الظلال والأضواء التي تنتقل بين أشكال الطبيعة راحت مخيلته تصوغ منها موضوعات ذات خصوصية تتجلى فيها جمالية ألوانه المؤداة بتقنية اكاديمية عالية ضمن نهج لوني موروث", كما يقول الفنان والناقد العراقي صاحب أحمد. كانت آخر اساءة للفنان العراقي محمد صبري, حين سأله ضابط الجوازات في بغداد إن كان يعرف القراءة والكتابة, فأجابه الأستاذ في أكاديمية الفنون الجميلة ببراءة وجدية, "أجل وإلا كيف كنت سأدرس طلابي!". هذه الطريقة الفجعة التي طبعت آخر ملمح لبلاده وهو يسافر, يتأكد مما كان يقوله صبري لأصدقائه عن "التجويع والإساءات والعذاب", يوصي زوجته وهو مستسلم للموت في "مستشفى البشير" في عمّان ألاّ يدفن في العراق "ما معنى ان تستقبلني بلادي جثة, بينما هي أساءت إليّ كثيراً وأنا موجود حيْ".
* تقرير نشر في "الحياة" الخميس 9 أيار 2002
|