لا ترتضي افلام المخرج يوسف شاهين وصفا اقل من كونها مثيرة للجدل، فهناك دائما مناظرات تبدأ ولا تنتهي، جماليات العمل، موضوعة انتماءاته، قيمة الاثر الفني عموما، وفليمه الاخير "اليوم السادس – 1986" لا يختلف عما سبقه من افلامه، وهنا مراجعة وصفية وانطباعات عن جمالية الصورة في الفيلم، وكذلك جانب آخر من المهارة التقنية التي تضمنها الفلم وهي جمالية الصوت.
المخرج يوسف شاهين
الكاميرا تتسلل بخفة ونعومة الى داخل مكنونات الشخصيات ثم ما تلبث ان تبهجنا لرؤية تلك المكنونات، آفاق من اللون الصافي وتجريد في المشهد يتجلى لدرجة يبدو فيها اقرب للوحة منه للعمل من اجل موضوعة التعبير عن حالة تلك النفوس الطافية فوق سطح نهر غمرته الآثام والاوجاع دون ان يترك لنفسه الفرصة ولضفافه كذلك غير ان تتلو آيات من الحياة ومعالمها (مشهد استرجاع للطفولة على ضفة النهر ).ومشاهد الفلم الاولى – تلك التي اشتملتها ( الحارة ) وقراءة المخرج لتفاصيل حياة ابطال الرواية – اعتمدت بناءا لونيا تشكل في تلك التدرجات ومتتاليات الضوء فمشهد مثل غرفة الجد سعيد ( حمدي احمد ) وهي تحترق في اول الفجر وما تضمنه من بنى لونية بدأت من التوهج ( الحريق ) حتى اختلاط الابيض بالاسود ( الفجر ) وتلك اللمسات الساطعة للضوء المتوهج على بلاط الشارع، ومنعطف البناية المعتم من جهة والمضاء من جهة اخرى، كان عملا قل نظيره في احتوائه على جمالية تتوسم الاتقان والحرفية الحية، دون ان تنسى تلك اللمسات اثرها في التوصيل الدرامي، وهو هدف كل لقطة في فلم درامي مثل "اليوم السادس".
مشهد يؤكد جمالية الصورة في فيلم "اليوم السادس"
لقد كانت الكاميرا حتى في صخب لقطاتها وتوالي اكتشافاتها المتسارعة تترك لنا اثرا يقترب من الهدوء الشامل لقوة تأثيره ( وجه صديقة بابتسامته المتسعة كالجرح ) كما تصفه ( صديقة – داليدا ) ذاتها! ان هدوءا نسبيا كالذي توقفنا عنده يكثفه يوسف شاهين لامكانية التعبير المشحون بالقوة، وهو في كاميرته عموما يبهرنا بدقة ملاحقته للاحداث، الشخصيات، مؤثرات المشهد وبعجالة تكاد تقطع الانفاس، ان ذلك يكتسب مع فيلمه هذا اتجاها آخذا نحو الثبات، فالاحداث وفوضاها وايقاعها السريع كانت واضحة في فيلمه "وداعا بونابرت" وكأنه في فيلمه بدأ باستخدام "علم الاشارة" في السينما، ففي "اليوم السادس" كانت كاميرته الحاذقة لا تميل للعرض السردي، انها تلتقط وحسب اشارات تلو الاشارات، ومنها نعرف في محاور الفيلم ان طلابا وطنيين يواجهون شرطة قمعية، وبالاشارة التي توفرها اللقطة ايضا نتعرف على نجمة سينمائية ( شويكار ) تحاول ارباك الزمن وتتشبث بفوضى شباب بدأ يخبو، وبمشهد سريع الايقاع ايضا يعرفنا المخرج بحجم كارثة الآفة المرضية ( الكوليرا ) واتساع المشهد كان مؤشرا لطبيعة الوضع الاجتماعي المريض باكثر من داء ( مشهد الجثث الملقاة باهمال على ارض مسورة باسلاك شائكة وحولها الثكالى وصياحهم المأساوي ). ان يوسف شاهين على بينة من عمق الحزن في نفوسنا، ولأنه حاذق في قدرته التعبيرية فهو يغلق فسحة ما فينا، ويجعل الصورة معتمة وحزينة ( مشهد النزول السريع للباب الاسطواني لدار السينما ) حيث تطفأ انوار اخرى برحيل صاحب الدار الى فلسطين ( لاحظ الارتباط بين العتمة والرحيل ).
ان مستويات الاداء الدرامي في القصص المتداخلة التي تضمنها الفيلم لم تفتك، على الرغم من فوضاها، بتناغم الصورة بشكلها النهائي، وذلك يعود للنزعة الشخصية التي يدرك عبرها يوسف شاهين اسرار الحياة كمخرج طليعي ومن طراز خاص، فهو حقا من يفتح النوافذ ولكن على مزيد من الوجع والصدق والمحنة والتشبث بالحياة والدفاع عن رموزها الغضة. ان هذا المسافر الجوّاب في مسارب حياتنا يوفر في القسم الثاني من فيلمه ( الصعود على متن المركب نحو اعالي النيل ومن ثم الى البحر ) الكثير من المعاني التي تشتمل عليها الوان الطبيعة، النيل بطماه وضفافه المتوسمة عناقة الاخضر، الشمس بتدرجات لونية وتحولات الافق بغناه الروحي، النفوس تلك المنهمكة برحيلها ( الى البحر ... الى البحر )! والسلة التي تصعد نحو اعلى السفينة وفيها الطفل حسن المصاب بالكوليرا املا بتحقيق لقائه بالبحر، لكن كل ذلك يأتي عبثا فالموت كان هو الذي يرقد هناك عاليا ( تلون المشهد لحظتها بترابية لم نجدها تدخلا فجا )، ومع ذلك استمرت وفرة من المويجات الصغيرة ترتطم بالمركب.

الفنان الكبير يوسف العاني في فيلم "اليوم السادس"
ان تركيز حديثنا عن جمالية الصورة في الفيلم، ينبع اصلا من تلك القدرات المبدعة لمصوره الفنان ( محسن نصر ) ومصمم ديكوره ( طارق صلاح الدين ) وجهدهما الفذ في انجاز المشاهد وصاحب ذلك بالطبع الاشراف الدقيق من قبل المخرج، فهو امر يبعث على العجب حين تصل بهذا المخرج دقته وحرفته في عدم نسيان حتى نوع الفيلم الخام الذي صورت عليه المشاهد!
ومن جمالية الصورة الى جمالية الصوت، حيث كان محورا آخرا للفلم وعونا لم يكّل من اجل تثبيت نوازع المخرج الذاتية ورؤاه، وهو اهدى الفيلم لجين كيلي: الممثل، المخرج، الراقص، المنتج وأحد كبار فترة هوليوود الذهبية، ومن هنا كانت الاستعارة لتلك الاجواء ( الرقص والغناء )، اذن لا بد من موسيقى وصوت، لابد من مسرحة الغناء، وهنا استعان المخرج بواضع الموسيقى التصويرية وملحن الاغنيات في الفيلم( عمر خيرت )، ولهذا الاسم لانذكر للاسف اعمالا مهمة, واعداده للموسيقى التصويرية للمسلسل التلفزيوني "البيوت اسرار" كان عملا مخيبا ومحبطا لتلك المحصلة الممتازة التي خرجنا بها حين شاهدنا "اليوم السادس"، فالصوت كان موضوعا بتقنية من استخدام التوزيع الآلي مع وجود مرشحات صوتية عديدة اللحن في الاغنيات – الاولى من اداء ( عكة ) ومنها تجسيد لمهمته الشخصية كصانع افراح خاصة ( قرداتي ) في حارته بدا بسيطا في ايقاعه لكنه يتماثل مع اجوائه التعبيرية، غير ان عمر خيرت يتجاوز ذاته في اللحن الثاني الذي قدم عبر المشهد الذي يحيلنا لجين كيلي ( يستعمل عكة ذات الحبال التي يقفز بها كيلي من سطح بناية لآخر في احد افلامه )، فقد كان الايقاع، وعلى الرغم من بنائه الغربي واجوائه المستعارة، على درجة ممتازة من الاتساع بحيث استطاع في روحيته تجسيد هوس هذا الانسان، كما ان الابواق والصنوج كانت فياضة باستيعابها لمرح من روح بهيجة. هذا المشهد هو تجسيد لمعنى اهداء يوسف شاهين فلمه لذكرى جيل كيلي "الذي ملأ شبابنا بهجة وعذوبة" كما يقول المخرج في "تايتل" فيلمه.

المغنية الفرنسية الراحلة داليد في عمق مشهد من فيلم "اليوم السادس"
ان هدوء المركب إذ يطفو على النيل ويمضي لمصالحة روحية لراكبيه ينسجم مع مؤشرات المشهد بقوة الايحاء الذي جاء به لحن الاغنية الاخرى في الفيلم وبصوت المطرب محمد منيرهذه المرة، والذي عودنا على الانشاد الممتع، وهنا كان مؤثرا بدفق الحنين الذي توفر عليه.
هكذا تعرفنا على دروس الجمال في فيلم "اليوم السادس"، والتي جائت ضمن محاولة لاضاءة جوانب تتخلص من تهمة التقنية وتعقيدها نحو صورة العوامل التي ترتفع بقوة الاثر الجمالي في السينما.
*مقالة نشرت في جريدة"القادسية" 5-8-1987