كيف نُنشيء أمة في المنفى على الصعيدين الشعري والفني؟ هذا هو السؤال, هكذا يبدأ عبد الكبير الخطيبي في النص الذي رافق تجربة مشتركة ما بين شعر محمود درويش, ولوحات (حفر) من رشيد القريشي وخطوط من حسن المسعودي, ونسجت تلك التجربة علاماتها (البصرية) في معرض أفتتح الأسبوع الماضي في عمّان وبإستضافة من "دارة الفنون" التابعة لمؤسسة عبد الحميد شومان, وبحضور الشاعر محمود درويش والفنان رشيد القريشي. يقول عبد الكبير الخطيبي في نصه الذي تضمنه كتاب صدر رفقة المعرض, وحمل (قراءات) القريشي و (اقتراحات) المسعودي لشعر محمود درويش: "لنتناول على مهل هذه التحولات, هذه الترجمات بين اشارة وأخرى, بين صورة وصورة ثانية, مجموعة من أعمال الحفر تمسرح اللغة العربية بشاعريتها وخطها, هذا الخط الذي يُكتب ويُقرأ من اليمين الى اليسار, وإن كان اتجاهه الجرافيكي المتميز نموذجاً فضائياً ناظماً يتجه نحو كل اللغات, من الكتابة التصويرية الى كتابة شبه رمزية, مروراً بالتعبير الخطي العربي, سواء أكانت هذه الكتابة مقروءة أم مستعصية على القراءة, مقلوبة او مناسبة على اللوحات في كل اتجاه كأنها تحاول الفرار من هذه المحفورات العارية من الأطر".
حمل المعرض في تجربته المتميزة الدلالات الفنية والثقافية, خصوصية الأعمال الفنية في كونها مركباً متحداً متجانساً لـ"منفيين" ثلاثة: رشيد القريشي "بعيداً عن وطنه الجزائر" من خلال صياغته لأعمال الحفر والطباعة وتشكيلاتها, والشاعر محمود درويش "بعيداً عن وطنه فلسطين" من خلال صياغة القصائد وتوقيع (لوحاتها) الشعرية, والخطاط حسن المسعودي "بعيداً عن وطنه العراق" من خلال صياغته لفن الحرف العربي وكتابته. ثمة قالب فني (قومي) المحتوى تحقق حسب القريشي ومحمود درويش والمسعودي, لكنه (انساني) الشكل, ومن خلال التعامل مع لحظات مؤرخة ومعيشة شعرياً وتشكيلياً تحقق امتلاء مكانياً وزمنياً يؤطر الحالات التي يعيشها الفنان في وطنه او منفاه وما بينهما من أشياء وشواهد وعلاقات وملامح ورؤى اجتمعت وتناثرت. الى تلك الملامح والرؤى يشير الخطيبي إذ يكتب: "شاعر ورسام وخطاط, ألا يمثل هذا اللقاء بحد ذاته عرضاً مشهدياً لحضارة طالما اتهمت تعنتاً باضطهاد التشخيص؟ اما نحن, فإننا سنواصل القول بأن الحضارة الإسلامية التي هي حضارة الإشارة بامتياز, يجب ان تقرأ وتفسر عبر مفاهيم جمالية مغايرة لمفاهيم التمثيل (تمثيل الطبيعة والمجتمع والجسم البشري), مفاهيم تكون قادرة على إدراك فرادة هذه الحضارة بأشكالها التخييلية التي تنتظم هنا بين فضاءات الشعر والخط وتحولاتها عبر فن الحفر".
اللافت ان عشرين لوحة مثلت عشرين قصيدة أو أجزاء من قصيدة للشاعر محمود درويش, تضمنها المعرض, رسمها القريشي إعتماداً على (تقنية الحرف والطباعة), أظهرت سعي الفنان القريشي الى دراسة الفراغ التناظري ما بين (أسود) التشكيل وحركتيه وبين (أبيض) الورقة, كذلك سعيه لتوزيع الحروف واتجاهات الحركة بالطريقة التي تخلق الإنسجام بين جزئيات العمل الفني والحالات النفسية والرمزية التي أراد نقلها, فهو لم يكن بقصد ابراز القيمة الجمالية للحرف او الرمز (الكثير من الرموز التي تنهل من ثقافات عديدة), بل عني بالكشف عن مضمون ما – على الأقل ما ذهبت اليه القصائد – وهو هنا لن يبتعد عن فلسطين: الوطن والفكرة.
يقول الخطيبي عن هذا الإشتباك بين اللوحة ومضمونها المتحرك: "يعيد القريشي تركيب هذه الرحلة في الزمن الفائت, وعلى طريق هذه الرحلة, تظهر فلسطين ويظهر سجل سوابقها", لماذا؟ لأن إنشاء أمة على الصعيدين الفني والشعري يعني أن نمنح شكلاً, جمال الشكل, للإسم, للأرض وللدولة, أي لكل مقومات هوية شعب, لكن فلسطين مصادرة ومتنازع عليها ومنفصمة في خارطتها الحقيقية والخيالية, ولأن الشعب المنفي يعيش راهناً عنيفاً فوق الإحتمال في واقعه ... فإنه مرغم على حماية كل ما يأتيه من ماضيه, من تاريخه, من حضارته ومن سجله الصراعي. إن فضاءات يمكن تحسس اتساعها من خلال اللوحة وهي انفتحت بفعل حركية الإحساس المتولد من إندفاع الأحرف والكلمات خارج إطارها لتصب مركز ثقل يتضمن دلالات رمزية وجمالية توحي بتلك الروحانية غير الملموسة التي تتخللها معاناة الفنان المبدع وأحاسيسه الحارة عبر المنفى وعبر السنين.
* تقرير صحافي عرض في صحيفة "الشرق الأوسط" الجمعة 28/11/1997
|