عمان - علي عبد الامير لا يمَكن لمن يشاهد " كوليا " الفائز بجائزة اوسكار احسن فليم اجنبي عام 1997 ، في افتتاح اسبوع الافلام التشيكية امس الاول في المركز الثقافي الملكي ، الا ان يتأثر بالمنحى الانساني العميق الذي اختاره الفلم لايصال رسالته : انشاد رقيق للحرية وهجاء لقمع النظام " الاشتراكي في جمهورية تشيكوسلوفاكيا من خلال حياة موسيقي عاش بناء الاشتراكية والاحتلال السوفياتي لبراغ ، وعاش ايضا سقوط ذلك النظام رغم الرفاهية التي تشربتها شعاراته . كل ابعاد هذه الرسالة ، اختار لها الفيلم الذي اخرجه يان شيفارك ، مدخلاَ حكائياَ بسيطاَ ، لجعلها اكثر منطقية واكثر صدقاَ في نقل ملامح فترة طبعت ، لا لتشيكوسلوفاكيا السابقة حسب بل عموم دول المعسكر الاشتراكي في شرق اوربا . انه اختار حكاية الموسيقي يان لوكا ، الذي يجهد نفسه في العمل : العزف في الافراح ، العزف في المآتم ، اعطاء الدروس لتوفير المزيد من المال من اجل الايفاء بمتطلبات انسانية تبدو غاية في البساطة والمشروعية : ترميم بيت امه الصغير وامتلاك سيارة صغيرة ، ويكاد يقضي عليه هذا
اختار المخرج مؤشرين لتعميق الاحساس بكآبة الحياة ضمن النظام الاشتراكي رغم " السعادة " التي تقول وسائل اعلامه انها تحققت " للجماهير المنتجة " : المؤشر الاول في الايقاع البطيء والروتيني للحياة والحذر الشديد من المقربين للسلطة ، " الوشاة والحزبيون والمسؤولون في العمل " والمؤشر الثاني في الوجود المكفهر للسوفيات على الاراضي التشيكية ، فهم دائماَ بعرباتهم العسكرية الضخمة بلونها الخاكي المكفهر، يجعلون اي احساس للناس بأنهم فعلا على ارض وطنهم عرضة للشك والمراجعة .
يعتمد الفلم اظهار اوجه التهكم الشعبي من الوجود السوفياتي ، أكان ذلك عبر حكاية التآخي بين الشعبين " رفع العلمين على الجدران " و " الجدارية الضخمة التي تجسد ساحة موسكو الحمراء رغم الجدران تعود لمترو براغ " ! كذلك في " تماثيل الرفاق النصفية " التي يجب ان " تتعمد " بها البيوت والا فأن علامات الشك في الولاء سوف تثأر بسبب غيابها . ورغم ان نوعية الفيلم وطريقة عرضه " الفديو سكرين " ليست كما هي في العرض السينمائي ، وهذا عائد لترتيبات الجهة المنظمة لاسبوع الافلام : " السفارة التشيكية في عمان " الا ان البناء الفني الجميل للفيلم وموضوعه الحي والمؤثر لم يتراجعا ، وظل حظورهما في المشاهد ، يزداد غنى ، بتقدم الاحداث في الفيلم واخذها منحى جديداَ منذ وصول الطفل كوليا الذي هو ثمرة زواج شكلي ، شهدت تشيكوسلوفاكيا مثيله كثيراَ في سنوات الثمانينات الاخيرة ويتم بين امراة من الاتحاد السوفياتي ورجل تشيكي مقابل مبلغ من المال ، ويبدو ان هذا الزواج كان احد الوسائل التي من الممكن عبرها ان تغادر السوفياتية حدود بلادها ، وبالتالي الوصول الى " الجانب الاخر " من الحياة : اوربا الغربية عبر الاراضي التشيكية .
فالموسيقي يان لوكا يتزوج سوفياتية بالطريقة ذاتها ، ولكنها تهرب الى المانيا ، وتترك له ابنها كوليا البالغ من العمر خمس سنوات ، وتبدأ مفارقات عديدة يمثلها وجود كوليا ، فهو لا يتحدث تقريبا الا الروسية ، ويتحسس من كل الاشياء التشيكية بضمن ذلك علم الدولة ، ولا ينام الا بعدما يسمع حكاية خرافية بالروسية " هذا يجعل والده يبحث عن صديقة تتحدث الروسية كي تقص على كوليا قصة عبر التلفون " ! وفيما نجد ان الطفل كوليا كان يهرع الى الشارع لتحية الجنود السوفيات ويمرح معهم ، كنا نجد ان جدته لابيه كانت تكذب على الجنود وتدعي انقطاع الماء حين يطلبون منها بعضاَ منه لغسل اياديهم المتسخة ، كذلك اصرار الطفل على مشاهدة فيلم كرتون بالروسية حتى وان كان ذلك يتم بتخصيص عرض له وحده .

كل هذا الجليد يبدأ " بالذوبان " شيئاَ فشيئاَ بين كوليا ووالده عبر رفقة من المشاعر يغمر بها الموسيقي ولده ، كما ان ايقاع الحياة في المكان الجديد اقرب الى التسامح وهناك من العناصر ما تجعل الطفل يندهش : نظرته الممتزجة بالدهشة والتعجب نحو تمثال ضخم للعذراء مريم على سطح كنيسة ونظرات عيونها الحانية المتأسية التي كانت تبدو وكأنها متعاطفة مع حيرة الطفل . ولابد من التوقف امام الاداء الساحر لطفل اعجوبة بحق ، اداء متمكن امام الكاميرا ، وكانه عرف التمثيل وكيفية اظهار المشاعر الداخلية للشخصية منذ عقود طويلة ، فلا يمكن لمشاهد الفيلم ان ينسى اداء الطفل اندريه شاليمون لدور كوليا في مجموعة من المشاهد مثل مشهد افتراقه عن والده وضياعه في محطة قطارات المترو ومشهد استخدامه رشاش الماء في الحمام كسماعة هاتف يتحدث عبرها مع جده لامه ويبكي او مشهد رفضه العودة به معها سيما انه عرف طعماَ اخر للحياة مع ابيه . ولو استذكرنا المشاهد المصنوعة في الفيلم الذي اعتمد سيناريو زيدنيك شيفارك ومنها التي تصور التظاهرات التي عمت العاصمة براغ وساهمت في اسقاط النظام الشيوعي او مشهد اختلاط الحلم بالواقع والطفل كوليا محلق في الجو بعد سفره لعرفنا اي فيلم جميل هنا الذي امكن للجمهور الاردني المحب للسينما مشاهدته في افتتاح اسبوع الافلام التشيكية الذي يتضمن اضافة الى كوليا افلام " السنوات الرائعة المروعة " و " اصحاب الازرار " و " المدرسة الابتدائية " والاخير هو الوحيد الذي سيكون باللغة التشيكية ودون ترجمة .
*نشرت في جريدة "الرأي" الاردنية 28-10-1998
|