نقد فني  



كتاب في العمارة العراقية يتجاهل سؤال الانحطاط

ِعلي عبد الامير

تاريخ النشر       17/01/2010 06:00 AM



يقيم الفنان التشكيلي والكاتب العراقي جواد الزبيدي مقارنة لا تخلو من جدة بين الرؤية التكوينية في الفن (التشكيلي منه بخاصة) والهندسة المعمارية، وذلك في كتابه الصادر حديثاً في بغداد عن "دار الشؤون الثقافية العامة" في عنوان "الفن وهندسة العصر"، ويرى الزبيدي ان العلاقة المتداخلة والمتشابكة بين الفن والهندسة المعمارية التي توثق للتغيرات في البيئة على وجه التحديد، تحاول الارتقاء بالذوق والوعي بما يجعل الحياة المعاصرة اكثر غنى وعمقاً وتحضراً (...).
  اللافت في مثل هذه الرؤى انها تدير ظهرها تماماً للوقائع العراقية الراهنة، بل حتى للتجربة المعمارية التي واكبت دخول المدينة العراقية مشروع تحديثها، فلا يمكن في هذا الصدد إلا اعتبار اعمال المصمم والمعماري محمد مكية قطعاً فنية خالصة اجابت عن اسئلة التحديث لجهة تأهيل المشروع التحديثي وسبغ ملامح محلية على منهج تغييري لا تخفى دوافعه الغربية، كما لا يمكن اعتبار اعمال المعماري البغدادي الروح والتدفق رفعت الجادرجي إلا بوصفها وطدت في العمارة تأثيراً فنياً كما لو انه بصدد انجاز عمل تشكيلي، وفي الاطار ذاته يمكن قراءة اعمال المعماريين العراقيين قحطان عوني وقحطان المدفعي.
وغياب هذا المستوى من النظر التطبيقي لموضوعة "الفن وهندسة العصر" في كتاب جواد الزبيدي يقابله ايضاً غياب في فحص فترة الانحطاط التي عاشتها المدينة العراقية (بغداد) منذ ان صارت نهباً لصواريخ وطائرات التحالف ، قبل حلول موسم الحصار الذي ادخل العراق مرحلة "تفتيت البناء"، فالعراقيون الذين حاصرتهم الفاقة كانوا يفككون الطوابق العليا من بيوتهم ليبيعوا "طابوقها" ونوافذها وأبوابها وبلاط غرفها وممراتها وحمّاماتها.
واذا كان الزبيدي في دراسته الفن وعلاقته بالهندسة يقصد "اعطاء الاهمية المطلوبة للنوع الاكثر جمالاً وقرباً من الانسان في تحولاته الحضارية"، فإنه يطنب في الحديث عن الإطار النظري للموضوعة بوصفها "المحرك الجمالي للارتقاء بوعي الانسان ونظرته الى الجمال والطبيعية الجمالية (...) ونبذ القبح والتلوث البيئي والعقلي" و "كالعادة من دون ان يقارب موضوعته بالوقائع التي تعيشها المدينة العراقية، وهو في ذلك يكاد يكثف حال "التلفيق" الذي عاشته الثقافة العراقية منذ ان اصبحت محكومة بالمؤسسة الرسمية قبل 30 عاماً، وفيها تبدو مأخوذة في تعاطيها مع الحداثة في اطرها النظرية وتمظهراتها في شتى اتجاهات النشاط الانساني ولكن دائماً من دون مشقة قراءة القضية محلياً والاشتغال على اسئلة تقدمها مفترقات حادة عاشتها البلاد في مفتتح كل عقد تقريباً منذ عام 1970.
 

بغداد: فوضى معمارية وتلوث ذوقي

ويحيل كلام الزبيدي على ان "الفنون تلتقط الحقيقة واسعة المدى للعالم الموضوعي وتعطيه القيمة الجمالية لأن كل فن سواء بصورة مباشرة أم غير مباشرة يعكس جانباً من جوانب الحياة والوجود وذلك بالتشديد على جانب من دون آخر بطريقته الخاصة، وبحسب المادة الفنية المستخدمة في التعبير كالرسم والأدب مثلاً". يحيل الى ما انشغلت به المطبوعات الثقافية العراقية في الثمانينات من انبهار فارغ بمناهج الفكر الغربي الحديث والنقد على اوجه الخصوص، ففيما كنت تُحاصر بخطاب اكاديمي وآخر أدبي مقترح يعلي لغوه وضجيجه، تجد نفسك حين يقترب اصحاب النموذج "التحديثي" من الوقائع العراقية، محاصراً بتطبيق تلفيقي ينزع "قناع" الحداثة ليظهر على ملامحه الحقيقية المتخلفة. فالناقد المأخوذ بمناهج النقد الحديثة يطبق معارفه على قصيدة عادية للشاعر سامي مهدي عن جندي "مثالي" في الحرب مع ايران يقف امام العدو مغنياً "إحنا مشينا للحرب".
ولو عدنا الى كتاب "الفن وهندسة العصر" لوجدنا انه كلام منمق بل مدهش ولكنه مشغول بقضية غير متوافقة اطرافها وعناصرها، فهو كمن ينشغل بترتيب الزهور في آنية من الخزف ولكنه ينسى ان المكان مكتظ بالنفايات ومن هنا لا زهور ولا تأثيراً ناعماً ولا جمال! فالمؤلف جواد الزبيدي يثبت ان اساليب التعبير وصوره الاساسية في الفن والهندسة تشترك في ثوابت ومتحولات، إذ هي تبدأ بالخطوط ودورها في التكوين ولا تنتهي في النقطة وتكويناتها وخصائصها وحركتها المتغيرة: "كل شيء يتحرك، كل شيء يتغير،  وكل شيء يتجدد، الكائن الحي لا يثبت ساكناً على حال... تظهر لنا بقعة بيضاء في مقدمة الصورة كأنها تخطو خارج اطار اللوحة متحدية مؤخرة الصورة الداكنة السوداء تتصارع البقر السود والحمر والبيض، ويحدد حركتها الخط الخارجي للشكل... فننظر نحو نقطة صغيرة تتحرك عند الأفق وتقترب رويداً رويداً فتصير رجلاً مقبلاً او قاطرة قادمة ونقاط الصحراء في نظرة من الجو تتكشف عن قافلة من الجِمال سائرة".
 كلام المؤلف على الجمال بوصفه ذهنياً ومُتخيلاً (كما تثبت ذلك ورقته) يناقض بل ينسف مدخله القائل في ان "وعي الابداع والابتكار يجعل الحياة المعاصرة اكثر غنى وعمقاً وتحضراً"، فهو ظل كلاماً "منمقاً"، شأن المنجز الثقافي العراقي ككل، كلاماً مأخوذاً بالتحديث والمغايرة والانفتاح والتقدم ولكنه لا ينظر كم لهذا الكلام من اتصال حقيقي بالواقع الذي يتعاطى معه او يخاطبه على الأقل. فالذي يتحدث عن الفن والهندسة المعمارية بوصفها دهشة و "اضاءة جمالية للمخيلة الانسانية" لم يحدثنا باعتباره مشتغلاً على العمارة عن التغيير الحاد الذي اصاب التصميم الابرز في منازل بعض العراقيين خلال التسعينات او لماذا هي ضخمة جداً؟ وهل لهذا الحجم "Double Volume" علاقة باصحابها ومعظمهم أفرزته سنوات الحرب والحصار؟ وبالتالي هل ان (ضخامة) الحجم والمبالغة في استخدام المرمر والغرانيت عائد الى تعويض (ضآلة) التكوين العقلي والفكري والوجداني عند أصحابها؟
 ان كتاباً كالذي وضعه جواد الزبيدي يطنب في الحديث عن الرؤية الجمالية ووعي الدهشة المشتركة ما بين الفن وهندسة العصر مؤكداً على "اضاءات في المخيلة الانسانية"، هو كتاب يكشف عطلاً في جوهر الثقافة العراقية، فهي ثقافة تدفع بالافتراق والمتخيل والذهني والادبي المتصور الى الواجهة فيما يتراجع فيها كل ما يتصل بالمعرفة القائمة على اكتساب مشروعيتها من خلال اتصالها بوقائع يبلغ ثقلها حد أن الهواء صار حجراً.
*قراءة نقدية نشرت في ملحق"آفاق" بصحيفة"الحياة" في  15 تشرين الثاني 2000
    


 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM