عمّان – علي عبد الأمير حظيت انشودة "القدس" التي وقعها تلحينا وغناءً المطرب كاظم الساهر اعتماداً على نص كتبه الدكتور مانع سعيد العتيبة، بقراءات في الصورة التلفزيونية في أكثر من فضائية عربية. نعرض هنا لثلاث منها منوهين بالبناء اللحني والغنائي الذي أكد فيه الساهر انه صاحب صيغ من طراز خاص، وإن كان لحنها يحيلنا على لحن انشودة للساهر غناها بالاشتراك مع لطيفة التونسية قبل ثلاث سنوات، من تأليف الراحل نزار قباني، وكانت فيها حصة بارزة للقدس.
ابتعاد يبتعد الساهر عن نمط "الغناء الوطني" الذي كرسته اذاعات الحكومات وتلفزيوناتها، فلا "مارشات" انتصارات وهمية، ولا ثناءات عريضة للقادة الأفذاذ، بل هو يصوغ تمهيدات فيها ما يوحي بالترقب، بمقدار ما فيها ما يؤكد وقع احداث جسام. ومع حماسة الصوت غير المتشنجة، وهو ما اعتدنا سماعه في "الغناء الوطني" يتطور اللحن من مستويات الترقب والأحداث الأولى الى حال الاشتباك، فيعلو الصوت "أنا هنا" وتتداخل معالم المكان المقدسي مع وقائع اليوم: "القدس ذي مدينتي، حبيبتي، وجهي، جبيني، عزّتي، إبائي"، ليرّق الغناء هنا كأنك تسمع اغنية عاطفية، وتطوف بك حال وجدان يعززها اللحن باستعارته ايقاعات المتصوفة وضربات دفوفهم، لنصل الى التكبير الذي تتولاه الفرقة المنشدة، فيما صوت كاظم الساهر يتداخل معها بتناغم مندفعا الى آفاق الوجد والتوحد والنداء الحاض على الانتماء الى الحق والعدل: الله أكبر .. الله أكبر .. واذا كان الرحابنة صاغوا للقدس انشودتين تليقان بها هما "زهرة المدائن" و "شوارع القدس العتيقة"، وطبعتهما فيروز بروحيتها العميقة وطهرانيتها، فإن كاظم الساهر صاغ للقدس نشيدا واكب أزمتها الراهنة التي تكاد توجز تاريخها وما انفتح فيها من "دروب آلام" لا تنتهي. هنا نتذكر بثناء خاص رائعة "المسيح" التي تهدّج فيها صوت عبد الحليم حافظ عبر نص صاغه باتقان عبد الرحمن الابنودي.
علي عبد الأمير وكاظم الساهر - عمّان 2001 (كاميرا سلام علي عبدالامير)
وعمل موسيقي على درجة من النجاح كالذي قدمه كاظم الساهر عن القدس، تلقفته غير فضائية عربية بينها: العراقية والسورية، وفضائية أبو ظبي. وقرأت الأنغام والمعاني عبر معالجة صورية كان من الطبيعي ان تتشابه لجهة استعارة مشاهد مواجهة شبّان الانتفاضة فجنود الاحتلال الإسرائيلي، وفي مشاهد من زوايا متعددة للمسجد الأقصى وكنائس القدس، وهو ما ظهر في معالجة كل من "الفضائية السورية" و "فضائية أبو ظبي" بينما شذّت عن هذه القراءة، معالجة "الفضائية العراقية" التي حولت الانتقاضة و "القدس" الانشودة، مشهدا عراقيا مطعماً بمشاهد من "أم المعارك" وصور الرئيس صدام حسين، بما يعطي انطباعا انه هو الذي "سيحررها" و "يصلي" فيها أيضا. فحين يغني الساهر "أنا هنا" في مستهل أحد مقاطع الأنشودة، يظهر الرئيس العراقي رافعا قبضة التحدي، وخلفه مشهد المسجد الأقصى، ويده ترتفع في تحية لقوات عراقية، فيما يغني الساهر: "تستأهل التقبيل أيد رفعت حجارة التحرير والفداء". وبينما تضرب الطبول في غير مكان من لحن الأنشودة، تكون ضربات مدافع الجيش العراقي وانفجارات صواريخه هي لصوغ الصورة التي تقترحها الفضائية العراقية.
صورة ما موضوعياً انتجت "الفضائية السورية" صوغاً ناجحاً لجهة توليف صور تنسجم مع معنى الكلام وحالات اللحن، فهي صور متواترة مع لحظات صعود اللحن وتواتره. فيما هي صور متأملة ودائماً لمشاهد كبيرة للقدس حين تكون الجملة اللحنية تميل الى تعبيرية وصفية. وما زاد هذا التوليف الموضوعي نجاحاً، تلك اللمسة الذكية التي مزجت صورة للساهر محدقا بنظرات فيها الترقب والجزع والمرارة مع صورة لما شهدته القدس وتشهده. والعناصر الفنية كانت أكثر حضوراً في "التوليفة" التي اقترحتها "فضائية أبو ظبي" لانشودة الساهر، فبرعت الصورة في تعميق ما شدا به صاحب "أنا وليلى" لتخرج عن وثائقيتها الى حيز متخيل، كما هي الصورة التي صاحبت مقطعا يقول: "سبحان من أسرى بذات المصطفى ليلا الى الأقصى القريب النائي / ذاك الذي ما حوله مبارك، هذا كلام الله لا غنائي". فعبر تغيير في اضاءة الصورة الأصلية ومزج للضوء الأبيض، بدت قبة الصخرة وقد أحاطتها هالة من النور، تشع في ثنايا المشاهد وجداً وسمواً واقتراباً مع لحظة ربانية عميقة. كاظم الساهر أكد في أنشودة "القدس" انه فنان من طراز خاص بين مغني وقتنا العربي الراهن، فاقترح لحناً قارب المدينة المقدسة مثلما قارب روح المقاومة، وغنى بعذوبة ورقة كأنه يتلو "نشيداً عاطفياً" يخرج بالعاطفة من معناها المتداول الذي حصرها بالحب بين المرأة والرجل، الى آفاق تعبيرية أعمق وأوسع.
* نشرت في ملحق " سينما وفضائيات" بصحيفة "الحياة" 8 حزيران 2001
|