رثاء الإنسان والأشياء والأمكنة وتفاصيل الحياة في الشعر العراقي المعاصر بحاجة الى دراسة شاملة، ولكننا هنا نسعى إلى تناول نصوص رثاء وفق موجهات محددة من اجل إن يتناغم إيقاع قراءتنا، ومن ثم يمكن توسعتها مستقبلا لتشمل نصوصا لشعراء آخرين.
لقد اخترنا نصوصا لشعراء من أجيال متباينة، فجعوا بفقد أعزاء لهم، فضلا عن إن هؤلاء المرثيين ينتمون ايضا إلى المشغل الثقافي والإعلامي والأدبي. هاتان السمتان تجعلان نصوص هؤلاء الشعراء حائزة على ميزة الصدق الفني وانسيابية التآصر بين الذاتي والموضوعي..
بنية العنوان
للعنوان من الأهمية الدلالية والجمالية ما جعله النقاد احد عناصر ما بعد إنتاج النص، وله مثابته البلاغية - الإعلانية في المسافة الكامنة بين إنتاج النص وتقديمه للجمهور. من هنا يأتي اثر العنوان في إضاءة نصوصنا المختارة. فعنوان نص خزعل الماجدي (إحزان السنة العراقية... خطفوا النسيم الذي اسمه مروان)* المنشور في جريدة المدى بتاريخ 28-1- 2009 ذو محمول دلالي واسع يتجاور فيه الحدث الأكبر مع الواقعة الصغرى، فالسمة الانفعالية المهيمنة - الأحزان- تشتبك مع توصيف مكاني- تاريخي- كلي الاتساع (السنة العراقية) والواقعة الصغرى (خطفوا النسيم الذي اسمه مروان) تهيئ مدخلا إخباريا - انفعاليا لرثاء ابن الشاعر (مروان الإعلامي العامل في قناة السومرية الذي اختطف وقتل مع زميلة له). كما إن عنوان نص ماجد موجد (السطوع الأبدي) مع الإهداء (إلى احمد ادم في كل مناسبة) تنفتح دلالاتهما على خلود المرثي فضلا عن إن الإهداء لوحده يتسع إلى الاحتفاء المتجدد بالشاعر الراحل للتنزه عن فضيحة النسيان. فيما يستدل عنوان نص علي عبدالأمير عجام (كيف بفجري وقد ثقل علي كتفي نعشك) المنشور في جريدة المدى بتاريخ 23-5-2005 على انعدام البون الزمني بين حادثة اغتيال الكاتب قاسم عبدالأمير عجام وذكراها الأولى التي تزامن كتابة النص ونشره معها، وتما هي تفاصيل تشييع الفقيد مع تأملات الذكرى يوحي بهيمنة الوظيفة الانفعالية للعنوان.
جماليات المتون
إن الاشتغال على جماليات متون الرثاء خاصة، يتموضع في الاستدلال على تقنيات الشاعر في استدراج (قبح الموت وبشاعة العنف والقتل) إلى مناطق إبداعية تتبادل فيها الوظائف البلاغية لأي نص وخاصة (الوظيفة الانفعالية) و(الوظيفة الجمالية) مواقع الهيمنة والإزاحة لبعضهما البعض وقد ركزنا على تلكما الوظيفتين في شعر الرثاء، فالوظيفة الانفعالية لها أهميتها التقليدية في الغرض الرثائي فالشعر به يسعى إلى إحداث انفعال عاطفي بفاجعة الموت ولذلك يهيئ في نص الرثاء عناصر اثر انفعالي عديدة اقلها الاهتمام الكبير بالايقاع الخارجي وعدم نشدان الغموض في المفردة والصورة اما الوظيفة الجمالية ينصب اهتمامها الرئيس بشعرية اللغة ما يشكل تحديا لمن يكتب الرثاء في خلق موازنة حرجة بين الوظيفتين، ويمكن القول ان تفوق الجمالي على المناسبة الانفعالية لانتاج النص يفتح بتجدد احتمالات القراءة المتعددة لنص فائق الجمال على الرغم من اقترانه بمناسبة سوداء وعملنا في قراءتنا على إبانة نتوءات الوظيفتين المشار إليهما في النصوص الثلاثة، فالشاعر خزعل الماجدي أفاد من القص القرآني (قصة النبي يوسف) بالتداخل مع إيحاءات نبل المرثي وجماله ونقائه:
(أصيح على قاطعات الأيادي
الم يكن مروان ويوسفكن الجميل
إذن أي متاع
وأي الذئاب سبته
أصيح على الجب
كيف احتويت رصيعا من الماس).
أكثر من ثيمة في قصة (يوسف) لها وهجات توحد مع قصة خطف (مروان) مثلا، ثيمة إخوة يوسف عندما رموه في الجب وقرانها مع الحالة العراقية، اقتتال الإخوة العراقيين أنفسهم كيف يغيب مكان عراقي (غيابة الجب) واحدا من أبنائه، حاملي مشاعل الحقيقة.
- كيف احتويت رصيعا من الماس؟
- هل يتقيد نبع؟
غيابة الجب تصبح بؤرة ضامة لمفردات متشابكة مع جذور العذاب العراقي تاريخيا وسياسيا وثقافيا، ألمعها مفردات الإخفاء أو الإقصاء أو التغييب (وآخ من بلد يتلاطم بالموت) أو (لماذا تغني البلاد نشيدا حزينا؟) وتفعيلا لحجم المرثاة من الخاص إلى العام ينادي الماجدي-رثاء وخلاصا- (الوطن، الأرض، الفرات، السماء، فصول الزمان العراقي) فرثاء الآخر (الطبيعة، الانسان، الوطن) يعد رثاء للجميع.
في نص الشاعر ماجد موجد هناك تأسيس جمالي لتفوق شعرية النص على بشاعة الواقعة ومجانيتها المفرطة، المعادلة الإبداعية المستديمة بين إعادة إنتاج الثقافة والحياة ترجح (السطوع) الدلالي للمرثي (الشاعر احمد ادم) مرموزا للحقيقة ومجسرا للـ(إشراق) الجمالي، بتأثيث مساحات متن الرثاء بالمناقب الخيالية للقتيل، ومجازات أدمجت المرئي واللا مرئي في سيرة (ادم) وسجاياه. فضاء النص كان مشرعا للانشغال المعرفي وصناعة الأسئلة (كان دم قليل يملأ القصب يملح شهوتك عن السؤال والكتابة، يملأ ذاكرتي بما رأيت ومالم ارعن حياتك وسجاياك). خصيصة اندماج الراثي والمرثي في انشغالات الهم الشعري ذاته تمنح جوهر المرثاة عمق الأفكار، فرادة الأخيلة وما من شأنه تجديد انتصار الحياة على مناسبة الموت دائما.
جماليات المتن تتفاعل مع تفاصيل (غناء) الحياة، وبوصف الراحل شاعرا ينتصر للمعنى، فهو يستجلب مرح الشاعر وحب الأصدقاء واحتفاء الليل به. نحن إزاء انتشاء شعري بما يطفئ الالتماع الأسود (لبركة الموت) التي وجد المرثي سابحا فيها. رعب بركة الدم وبرودتها تقابلها اشراقات نهار تشظي ظلالا ملونة ترتعش ببراءة، نتوصل إلى إن جملة الحياة أطول من جملة الموت وأكثر حيوية منها: (لكن قلبك يتحدث بنهم عن الأطفال وهم يمرقون عبر المزارع حيث تعلق الخضرة بأفكارهم إلى المدرسة).
اللغة هنا لا ترتدي الحداد، بل تفعل أقصى ما يتبادر من مفردات الشفافية والعذوبة ما يكسب الفاجعة فاعليتها الجمالية المتسلقة على وقائع الموت ما ينتج قصيدة احتجاج على صيرورة الموت المفرط نكوصا مفضوحة دلالاته وركودا في مستنقع النسيان، كما ينتج ايضا إعلاء لغناء الموت الفردي الذي يتمشكل مع إيهام (الحياة الباذخة) بها تفوق الفقيد على الموت دلاليا وجماليا وعلى مسالك التشابه مع الآخرين: (ما من احد يسكن مسكنك وما من فكرة تشبه فكرتك، حياتك باذخة، حلم لمن يحلم، ورغبة لكل طمع وشهية وحرمان).
يرشح من نص علي عبدالأمير عجام إحياؤه ثراء العلاقة الإنسانية بينه وبين شقيقه وحميميتها فضلا عن خصوصيتها النابعة من اهتمامات تجمعهما على الشغف بفن الموسيقى والثقافة والإبداع تمهيدا لتوصيف حالة موضوعية متناسلة الوقائع يتجوهر فيها توحد رثاء القتيل والحياة المعطلة معا /هجاء الموت والقتلة.
"تناقض عودة علي عبدالأمير من المنفى وواقعة الاغتيال"
أسلوب المناجاة البسيطة التراكيب يمنح النص صدمة الوضوح إزاء انكشاف قوة الكلمات امام تكاثف حجب الواقعة إحدى دوراتها أجواء الموت الكابوسية في عام اغتيال الراحل 2004 والأعوام التي تلته، دورة ثانية غرائبية تناقض حدثين يجسدان السعادة غير المكتملة دائما، بتزامن عودة علي عبدالأمير من المنفى وواقعة الاغتيال:
لم تمهلني، فتركت على بابي غيمة أرملة
أسلمتني إلى مدينة مقفلة
وجنوبها البسيط من بساتين
أوباش وفسائل كراهية
تراكيب مثل (غيمة أرملة، مدينة مقفلة، بساتين أوباش، فسائل كراهية) فاضحة لسطوة بؤر الموت وتواطؤات المكان المحلي فضلا عن مستويات متخلفة من الوعي الاجتماعي. ما اطر تعريفا جديدا للوطن (قاتل مثقفيه) بدلالة المنفى:
ما المنفى ان لم يكن يتمي بعدك؟
التناغم بين المعنى والشكل
هناك تباين بشأن استخدام الأنماط الشعرية لنصوص الرثاء الثلاثة، فضلا عن التباين في استثمار الأشكال الكتابية لقصيدة النثر، اعتقد إن هناك صلة وشيجة بين شدة الانفعال تجاه الفواجع الثلاث وما توحي به من اشتداد وقائع الموت بالتعاقب الزمني لها 2006-2005-2004 وبين اختيار النمط الشعري او الهيكل البنائي لكتابة الشعر نثرا.
خزعل الماجدي استثمر في غالبية أجزاء نصه شعر التفعيلة فضلا عن إن دفقات هائلة من الحزن لم تمنع من استخدام التقفية في بعض المقاطع، ويمكن القول إن توسعة الغناء الحزين في النص تعمل على تفعيل تأثير المتلقي للنص باستثمار تأثره في النقمة على هذا الموت الخانق لثقافات الحب والسلام. ولكن هذا لا يمنع من إن تتداخل موجات الانفعال المؤدى بالشعر الحر نمطا مع النثر، فحينما يتوحد الماجدي مع حزن الأم على ابنها نرى مويجات النثر تستدق إلى غرفة المرثي مروان، اثاثها واشيائه وحاسوبه الحزين ايضا، ما يعني إن الغائب إذ لا يسترد فهو لا يعوض (هبطت نجوم تقطر دما في بيتنا، تدفع بيديك الناحلتين مراكب البخور فتثير رائحتها ذهب الزمان).
الانتقالات من موجة الشعر إلى النثر ليست حادة وإنما ممهدة تلوح لحزن الراثي المنضبط حينا والمنفلت أحيانا أخرى، مثل هذا المقطع أدناه الذي يمثل فيه الانتقال العكسي من النثر إلى الشعر أقصى حالات الانفعال، اذ بعد هجاء الموت والأحزان والخراب والظلام يرسو غناء الشاعر إلى (محمول الراحة في الموت) والخلاص من الم الحياة الخربة يتماثل مع ضربات إيقاعية لأسطر شعرية تأتزر بالقافية، كأنما تفريغ سم الرثاء إلى أقصى حالاته يتناظر مع الإطراب والنفس الشعري الموحي بالخلاص:
سأنفخ في الناي وأقول:
ولدي حبيبي شمني
ولدي أرح عينيك من الم ونم
ولدي أرح قدميك من سفر ونم
وفيما استخدم خزعل الماجدي في كتابة الشعر نثرا الفقرة الشعرية قليلا فان نص ماجد موجد استثمر هذا الشكل بصورة كلية، والذي يسمى (العرض المكتظ) جاذبيته في كثافته التي تخلق استباقا متدفقا للمعنى ويعتقد بملاءمته مسعى قصيدة النثر في (تقديم حجم مرن قابل للتغيير، وكمية متصلة من الكتابة) بحسب الناقد الفرنسي (ميشيل ساندرا) تلك (التراكيب الدورية) في نص موجد تمنحه دفقا ايقاعيا يحيل-عكس مناسبة النص -الى الايقاع الانسيابي للحياة المكتظة بالتفاصيل والجواهر ام انه ايقاع حياة من كلمات؟
على العكس من ذلك,كان النسق الطباعي للعتبة الشعرية القصيرة في نص علي عبدالأمير (ولوجا إلى سرد سيرة وذكريات نثرا) إذ استخدمت كتابة قصيدة النثر بالشكل السطري الذي يرحل اكتمال المعنى الى سطر آخر يليه,كما ان فضاء الأسطر المتوالية يخلق مساحات صمت توحي بان الشاعر لم يقل كل شيء بالرغم من الفاجعة، نص عجام كان تقديما شعريا لسرد ذكريات تلاقي كتابتها شعرا صعوبات على مستوى حساسية الأداء الشعري وتناقضه مع المباشرة والنثر التقريري. رثاء الجمال أصبح دالة سرد ذكريات عن الراحل قاسم، نضاله في العهود الجمهورية المتعاقبة، أخلاقه، نقائه، زهده. كما يجعل باب الأمل مفتوحا في نص سيري عنوانه (في رثاء الجمال... في مديح الأمل).
* مقالة منشورة في صحيفة " الصباح" البغدادية 14-3-2009