عن الثقافة العراقية في المنفى ومجلة (المسلة)

تاريخ النشر       23/11/2009 06:00 AM


جـســــــــور علـى الأنـهـــــــــــر
محمد الحجيري
 
يقول الشاعر العراقي فاضل العزاوي في معرض كلامه عن مستقبل الثقافة في العراق: "ان مئات الخلاّقين العراقيين الذين اضطروا الى الهجرة الى الخارج لم يتعلموا اللغات الاجنبية فحسب وانما دخل العديدون منهم في نسيجها الثقافي ايضا (...). فقد ارغمتهم الكارثة على تأسيس علاقة جديدة لهم مع العالم". هذه العلاقة سهّلت الطريق للوصول الى الكثير من الثقافات. فأي اثر سيكون للمنفى على الثقافة العراقية؟ وماذا يفعل المنفيون؟!
لا شك ان وجهاء الثقافة العراقية في المنفى لا يقتصر عديدهم على عشرة او عشرين، فهم بالمئات في عواصم العالم ومدنه: عمان ودمشق وبيروت وباريس وامستردام ولندن وبرلين وكولونيا وبون ونيويورك واوسلو وكوبنهاغن وستوكهولم وسيدني ومدن اخرى. الكمّ من المثقفين العراقيين المنفيين ليس له مثيل في القرن العشرين. فإذا كان لنا ان نتذكر شيئا مماثلا للقمع الستاليني الطبقي فسنجده هنا في قرينه الصدامي القبلي. واذا كان البعض يردّد أن الروائي الصيني حامل نوبل للادب غاوكيسنغيان أُجبر على حرق كتاب له في فترة اعتقاله، ففي ظل الهذيان البعثي قد يجبر الكاتب على حرق نفسه لا كتبه فحسب.
يتحوّل المنفى حيزا للخلق: المنشقون من الادباء الروس والتشيكيين كان عليهم ان يكتبوا الادب االاسمى في المنفى، وكان على صوتهم ان يرتفع ويصبح له الصدى من جوزف برودسكي الى كونديرا.
المنفى بوابة الى الثقافات العالمية. وهو يستحق المديح. في زمن مضى، وجد اللبنانيون في المنفى المصري ملاذا ليشعلوا الضوء في الصحافة واللغة والادب والمسرح. هربوا من القمع العثماني وساهموا في تأسيس الصحافة العربية، او هاجروا الى اوروبا والولايات المتحدة واميركا الجنوبية وادى تمازجهم واكتسابهم اللغات الجديدة الى نشوء ثقافات جديدة اذا جاز التعبير.
العراقيون في الخارج، ينقلون بغداد معهم. هم "يبغددون" الامكنة ويساهمون في المشاريع الخلاقة والثقافية على المستوى العالمي. كان على الحرية المتوافرة في الخارج (المنفى) ان تؤدي الى شهرة عدد كبير حقا من الشعراء والكتّاب والرسامين والفنانين الذين يشكلون ظواهر لافتة. لكن ماذا يفعل هؤلاء ؟
في زمن مضى حين كانت بيروت هي الخط الابيض في المحيط الاسود، تلاقى الشعراء والكتاب والمثقفون والفنانون العرب في بيروت، وقد ساهم العراقيون في بلورة التجديد بسبب حماستهم لطرح كل ما هو جديد وخصوصا في الشعر. "انشودة" السياب شاع وقعها في الاذهان، وشكلت الصدمة. السياب واحد من هؤلاء العراقيين الذين يشكلون "قبائل لغوية" (عبد القادر الجنابي). قبائل ما برحت بيروت تحتاجها الآن، في مثل حاجة بغداد اليها ايضا. فبدونها لا تعيش المدن، لان الحياة بلا لغة موت آخر.
يقول عبد القادر في مقالة له "ان العراقي "شغول" في عملية الخلق وتفيض طاقته الابداعية عندما يكون في مأمن، في فضاء الحرية" و"العراقي لا يقدر ان ينتج ابداعا حقيقيا في ظل الاضطهاد". لا احد، لا احد يستطيع ان يدوّن مكنون ذاته على الاوراق، من دون العيش تحت مظلة الحرية، من دون مناخ الحرية الفردية. وهذا التعبير (اي الحرية الفردية) لا يوجد في قاموس الهذيان البعثي، الذي يعتبر الفردية هرطقة وانقلابا. هناك ليس في مقدوره سوى الولاء للجماعة وسيدها. الحياة هناك فيلم هيتشكوكي بامتياز.
العراقي "شغول". هو من اكثر الشعوب تعلقا باصدار المنشورات من كل صنف ونوع، ولكن تلك الاصدارات برغم تكاثرها وكثافتها لم تشكل خطا ثابتا لمشروع ثقافي عراقي بديل. فهي غالبا ما يتم اصدارها بمبادرات فردية يبقى توزيعها محصورا في نطاق محدود، باستثناء دوريات استطاعت ترسيخ نهج ثقافي مميز، اصدرتها مؤسسات تابعة لأحزاب كان لها دائما حضورها وتأثيرها الفاعلان في مشهد الثقافة العراقية. وهناك مؤسسات تابعة لأفراد ما برحوا يغوصون في التجريب الذي شكل اضافات مهمة على محتوى الثقافة العراقية (والعربية) المعاصرة وجسدها.
العراقي "شغول". وهو اذا اشتغل في مشروع ثقافي، يسرف فيه. ينحت من العدم لكي يخلق فيه ملاذه، لكي تكون ذاته فيه.
يقيم عبد القادر الجنابي في باريس، وهو دائم الخلق والتشبث والتجريب والسجالات والبحث عن الحراك الثقافي والهروب من فخاخ الرتابة والسائد. اصدر مجلة "الرغبة الاباحية" التي تنتمي الى الارث السوريالي ثم اصدر "فراديس" (مع خالد المعالي) التي كانت تعبّر عن ارهاص ادبي وثقافي وسياسي واجتماعي وسجالي جريء.
هو احد ابرز "الدعاة" لقصيدة النثر. واذ تعلّق بها، فهو اعطاها حقها، سواء في كتابته لها، او ترجمته القصائد لروادها الفرنسيين الى العربية، او ترجمته نصوص الشعراء والشاعرات العرب الى الفرنسية في عدد من الانطولوجيات. هو الصوت الشعري والمشاكس في الديار الباريسية.
العراقيون المنفيون اذا اسسوا علاقة وطيدة مع العالم، كان عليهم ان يقيموا جسورا بين ثقافتهم والثقافة التي تحيط بهم. عبد القادر الجنابي يشكل جسرا بين القصيدة الفرنسية والقصيدة العربية. الشاعرة امل الجبوري التي اصدرت "الديوان" الجنابي ، تطمح الى ان تكون هذه المجلة جسرا بين الثقافتين الالمانية والعربية.
ويدأب الشاعر الناشط خالد المعالي على اصدار الكتب والترجمات في المانيا، وفي ذلك جهد يستحق الثناء. فإضافة الى الترجمات من الالمانية خاصة، ينبش غياهب التراث ويبحث عن النصوص الجريئة شأن "الشخصية المحمدية" لمعروف الرصافي، اضافة الى اصداره مجلة "عيون" الفصلية التي تهتم بالمشهد الثقافي عامة وبالترجمات.
ويسعى الشاعر منعم الفقير الى ان يكون "تجمع السنونو الثقافي" الذي يديره في كوبنهاغن حيّزاً بين الثقافتين العربية والدانماركية. وهو ايضاً يدير   تحرير مجلة "ديوان" التي تصدر بالدانماركية وتعنى بالثقافة العربية، ومجلة "السنونو" التي تهتم بالثقافة في الدانمارك.
في لندن، يصدر صموئيل شمعون مجلة "بانيبال"، التي تعنى بترجمة الأدب العربي الحديث الى الانكليزية.
وتصدر مجموعة من الكتّاب العراقيين المنفيين مجلة "المسلة" وهي فكرية ثقافية شهرية، وتذكّر بالمسلة البابلية التي دُوِّنت عليها اول قوانين عرفتها البشرية، فيما لا يزال العراق دون قوانين. وهي عنونت نفسها تحت شعار تعريفي بأنها "مجلة الثقافة العراقية الحرة" ويترأس هيئة تحريرها ويديرها علي عبد الامير، وقد صدرت الاعداد الاولى منها في لندن ثم انتقلت الى الاردن، وهي مساحة في خريطة الثقافة العراقية كمنبر متميز للحداثة. استقطب اسماء مهمة.
 

غلاف عدد من مجلة "المسلة" التي ترأست تحريرها
 
ولا ننسى من المشاريع الثقافية العراقية مجلة "النهج" في دمشق و"دار المدى" الزاخرة بالترجمات والكتب.
يقيم الشاعر العراقي كاظم جهاد في باريس. ويعمل استاذاً جامعياً، وهو قال انه لم يطرق شخصياً ابواب الجامعة الفرنسية (التي انفتحت له بيسر) الا بعد عشرين سنة ويزيد، امضاها في "التسكع" على ابواب المجلات ودور النشر العربية. واضافة الى انه يكتب الشعر الحنون والعميق الحفر داخل الوجدان، مجتهد وملم في الترجمات. فقبل ان يترجم شاعراً او مفكراً، يقرأ عمله كله ويصوّن نفسه بألوف الصفحات المكتوبة فيه، بل "يزعج" بأسئلته انفاراً عديدين من المختصين بعمله، فتبدو الترجمة بالنسبة اليه مشروعاً. هو ايضاً "مشغول". واذا قلنا ذلك فليس من باب الثناء والتقريظ، فمن يقرأ المقدمة التي وضعها لكتاب "الكوميديا الالهية" الذي ترجمه اخيراً، يدرك ذلك. ومن يقرأ ترجماته لرامبو ودريدا وجان جينيه، وصولاً الى كتابه "ادونيس منتحلاً"، عليه ان يعي كيف ان كاظم جهاد يبحث في "الشاردة والواردة" ليكون لأعماله الثقافية مقام في النسيج العام.
... رواد المنافي العراقيون يعيشون في دواخل اللغات ويتعايشون مع ثقافاتها ويمتلكون المعارف. انهم في اختصار "الاحتياط الثقافي التاريخي للعراق" (فاضل العزاوي).


 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM