قبة النار 5

ِعلي عبد الامير

تاريخ النشر       14/11/2009 06:00 AM


في بيتي ..عائد من الموت للتو
 
عائد من الموت للتو، عائد من كرات النار، من الشظايا، من حرائق العجلات، من القنابل العنقودية، عائد من أرتال الموت المتنقل حين أصبحت أرتال العجلات المنسحبة هدفاً شهياً للطائرات المغيرة، فاحترقت العجلات والأجساد وقذف عصف الانفجارات بالجنود على الطريق، قتلى ممزقون، جرحى لم تتوقف عندهم يد تمتد بالعون وظلوا ساهمين يتطلعون صوب الافق بانتظار موتهم! وهؤلاء أوفر حظاً من الذين داستهم العجلات في الليل، العجلات والدبابات والمصفحات الثقيلة الشاردة وجعلتهم عبارة عن قطع متجلدة من القماش والانسجة الحية والعظام! عائد من كل هذه الفوضى المرعبة من كل هذه المصائر وبالصدفة وحدها خرجت من المجزرة. انتظمت عجلة الحمل التي أقلتنا من الزبير في البصرة، نحن الذين بقينا حتى صدور أمر انسحابنا لاعادة تنظيمنا في بغداد، والذي تزامن مع إنسحاب القطعات من الكويت، 42 فرداً من مجموع اكثر من مئتين،  هم الذين كانوا يشكلون وحدتنا، إنتظمنا في رتل ضم العشرات من العجلات والدبابات والناقلات المدرعة، تركنا ساحة الزبير الواسعة، فيما كان الجنود يهيمون سيراً وهم يخوضون في وحل الهزيمة، نعم وحل كثير فالأمطار لم تتوقف منذ ثلاثة أيام، يغوصون في الوحل مبتعدين عن الطريق العام، المستهدف دائماً من قبل الطائرات وهم يحثون الخطوات الغائصة صوب البصرة، مئات متصلة من الجنود تشكل ذلك المشهد، فيما كانت النيران تلتهم بعض العجلات والتي سقط بالقرب منها العديد من الجثث، مجانية وعبث لا ترقى لهما اي سريالية خالصة، حين أسرع أحد الكلاب لاحدى الجثث وراح ينهمك في نهشها، قبل أن يسارع أحد السابلة الى إطلاق رصاصة عليه من رشاشته ليرديه قتيلاً قرب الجثة! سريعاً عبرنا المشهد صوب جسر الزبير والذي نسفته الطائرات منذ الايام الأولى لحملتها الجوية، سدة ترابية الى جانب الجسر كانت هي المنفذ الوحيد لعبور شط البصرة الذي يأخذ مياه المبازل من وسط العراق وجنوبه ليصبها في البحر، الوحل امتد ايضاً لتلك السدة الترابية فيما سدت الطريق اليها العشرات من العجلات وناقلات الاشخاص المدرعة المحترقة أو العاطلة… من عجلة حمل مماثلة لعجلتنا، متروكة على جانب، تدلت جثة قتيل من جنودنا وبللتها مياه المطر، لتنزل القطرات الحمر منها ولتشكل على الوحل خطاً وردياً وجه القتيل يواجه الارض، لذا لم إشاهد من ملامحه سوى جذع متدل واطراف متورمة، شق سائق عجلتنا الطريق بمهارة بين كتل الحديد وتوقف خلف الرتل الذي كان يروم عبور السدة الترابية، غاصت واحدة من عجلات الحمل في الوحل وسط الطريق وسدت احتمال الوصول الى الضفة الثانية أصبحنا هدفاً مثالياً لهجمة جوية، قفزت من مقصورة العجلة وغاصت قدماي في الطين، وعبرت من تحت غيمة سوداء خفيضة تتشكل من بئر نفطي مشتعل بتأثير ضربة جوية، إقترب من أسماعنا صوت طائرات وأقترب بذلك أحتمال حريق إضافي واحتمال تشطية عنيفة أخرى تمزق العدد الوفير من الأجساد المزدحمة هنا، غير ان (جراراً) لا أدري من أين جاء؟ وكيف تمالك سائقة نفسه وأحتفظ برباطة جأش نادرة فذهب كي يربط العجلة التي غاصت في الطين بحبل معدني ويسحبها الى الضفة الثانية؟

 
جاءت عجلتنا بعد ذلك وصعدت اليها وصعد العديد من الجنود الذين تركوها مثلي، أرتال السابلة لم تزل تتضخم وتتزايد فيما تقترب المسافة من البصرة، توقفنا لجريح راح يؤشر لنا بتوسل وطريقة تثير الشفقة كي نأخذه معنا، وما ان تباطأت العجلة حتى هرع اليها العشرات غيره من الجنود الذين تملكهم الاعياء، وما إن وصلنا (ساحة سعد)،علامة البصرة المميزة عند الجندي العراقي -كونها تضم مجمع الباصات القادمة الى البصرة والذاهبة منها- حتى بدت الفوضى تتضح بكل معانيها، دبابات شبه تائهة في وسط المدينة، مدافع ثقيلة على الارصفة وجنود على ناصية الطريق يلوكون قطعة خبر، توزعت نظراتي بين إلتقاط تلك الارشادات بين معالم المدينة ذاتها فتيات صغيرات يتطلعن من شرفة في عمارة سكنية على ما يشهده الشارع، المجمع الإعلامي والتلفزيوني في البصرة إخترق سقف طابقه الثاني صاروخ ضخم والدمار يبدو هائلاً في المبنى، فيما أحدثت أحدى الدبابات ضجيجاً هائلاً حيث كانت تسير أمامنا، لتتوقف فجأة وتستدير نحو اليمين حيث مبنى فرعي للحزب واطلقت زخة من رشاشات الدوشكا اعلاها على صورة كبيرة للرئيس!! اذهلتني المفاجأة تماماً… سيحدث شيء ما هنا… هكذا قلت مع نفسي…
وصلنا (العشار) وكان ضجيجه هذه المرة لا لحركته اليومية كمركز نشيط للبصرة، بل لحشد الجنود المتحرك من رصيف لاخر ومن ساحة لاخرى ومن جسر صغير لاخر، الكورنيش غص على آخره بالجنود وهم يقفون بأعداد ضخمة في محاولة لعبور شط العرب باتجاه (التنومة)، خرجنا باتجاه الجسر الصغير الذي يؤدي الى مقام علي (ع)، حالة فوضى أقرب الى الهياج، جنود على الارصفة وبين العجلات التي ابتدأت بالتراصف الكثيف ولعدة خطوط متجاورة منتظمة في محاولة لعبور جسر مؤقت أقيم على شط العرب.
 العجلات أصبحت أعدادها بالمئات وبلا حركة تقريباً - ترى أي مجزرة ستحصل لو جاءت طائرة، الان؟ وها هو دوي واحدة يقترب منها، وكالدود الذي يفزع على الارض حين يداهمه خطر ما، قفزنا من العجلات الى الشوارع الصغيرة المجاورة للمكان او تحت جسر صغير، او الإرتماء على ضفة نهر من أنهر العشار الصغيرة المتعددة، (كانت الضفة تحمل علامات من الحجر المرصوف اثناء حملة اعادة تعمير البصرة)، يا للمفارقة فهاهي الآن شاهد على حملة تهديم الإنسان العراقي! هاهو فزعنا يقودنا الى لاهدى، الى مكان غير مقتربات الجسر التي أصبحت كعنق زجاجة! أمرأة شابة من إحدى الشرفات تنشر غسيلها أخذت تتطلع الينا وظلت تحملق في وجوه جنود بلا ملامح، منذ الثالثة بعد الظهر حتى السابعة مساء كنا ننتظر حركة الرتل الضخم للعجلات، وطوال الوقت كنت مأخوذاً بالمشهد، أفواج من الجنود تعبر الجسر مشياً الى الضفة الثانية من شط العرب، أسأل العابر الى اين؟ الى بيتي، الى بغداد، الى الحلة، الى كركوك… الى الرمادي، الى كربلاء، وفيما كان الغروب يأتي ليضيف مع خطوط الظلام التي يحملها وحشة يعمقها البرد وأمواج الوحل الكثيف، كنت أستند الى جدران أحد البيوت البسيطة التي تطل على الشارع العجيب في مشاهده، خرج الرجال الكبار السن والدهشة تتملكهم فيما راحت بعض النسوة توزع على الجنود الماء وبعض البيوت لم تتردد على الرغم من ضيق الحال في توزيع الشاي الساخن وأرغفة الخبر… البيت الذي اسندت ظهري اليه، خرج منه رجل ثلاثيني العمر مع طفلتين، حدقوا بي وأجبتهم بابتسامة جافة على شفتي بالكاد إستطعت ان أرسمها، ثم تعالى بعد لحظات بكاء إحدى الطفلتين -إبك ايتها الطفلة… ليأت اي شيء منك… ليأت ما يغير إيقاع الهياج المرعب هنا… ليأت صوت الحياة مؤجلاً على الأقل إيقاع الهزيمة والموت الذي يتأكد في منظر اي جندي وفي اي دبابة تلوذ هنا، أخيراً عبرنا الى الضفة الثانية، وفي الطريق التي تخترق بساتين النخيل، كان السائق ينادي برقم وحدتنا كي يهتدي الينا الجنود ويواصلوا الرحيل… طلعت الينا مجموعات نعرف منها البعض ولا نعرف ايضاً وبدوا لي للحظة، ككائنات مخيفة تخرج من قبورها، اذ كانوا يلبسون (البطانيات) وزادهم الظلام شبحية وغرابة.
 وصلنا (التنومة) واكتظ شارعها الوحيد بالعجلات والجنود -ماذا لو قضيت الليلة عند عمتي التي تسكن عائلتها هنا؟- لم أتوقف وخرجنا من المدينة وانعطفنا يساراً لنسلك طريق (كتيبان) الذي يخترق بساتين النخيل، الجنود على إمتداد الطريق يمشون حفاة ولا أدري كيف سيواصلون والى اي مدى ستأخذهم مقاومتهم؟ الطريق ذاتها، اخذت من حياتي الكثيرمن حرب الاعوام الثمانية - معارك شرق البصرة، مجنون، النشوة، بحيرة الاسماك، الفاو بضياعها وعودتها، الشلامجة و… و…- وها هي أكف الموت تهزني مع ثلاثين جندياً في عجلة تخترق الظلام بهدوء.
 عند مفرق (النشوة- مجنون) توقف السير… نزلت فاذا بالعجلات جاثمة على الطريق في خط طويل… لا أحد يعرف ما السبب في التوقف؟ لكنني شممت رائحة الموت قريبة منا… صحت على من معي: إنزلوا بسرعة، ومن فتحة بين غيوم حجبت قمراً مضيئاً ظهرت طائرتان فيما راحت قدماي تسرعان بي لانتهي عند ساقية مبللة القاع ولارتمي على طينها، تعالت الانفجارات وطارت فوقي الشظايا وأربعة رجال عند اعلى الساقية بلا حراك بعد حشرجة بسيطة، النار كانت تلتهم أول الرتل المتوقف ووسطه وآخره فيما بدت لي عجلتنا سليمة، عادت الطائرات ثانية وبدا الجزع لا الخوف او الرعب هو الذي يتملكني!! ليكف كل هذا وتعال" يا قدر يا تافه، أريد ان أنام، نعم أن أغمض عيني وأنام"… إحتل التعب والضنى كل أجزاء جسدي ولم أعد أخشى أي شيء… وبين غارة وأخرى اهتديت مع عشرة جنود الى بيت بدا مهجوراً وسط بستان للنخل، وسائق العجلة (طالب هليل) أكثرنا هدوءاً وسط الرعب، عاد للرتل المحترق وجاء بسلاحه الشخصي وحقيبتي وبعض البطانيات ومد لي بواحدة وقال: "تعال لننام وفي الصباح يحلها حلاّل". بدا ذلك مع الحريق والبرد والقذائف نوعاً من ميتافيزيقيا لا تتحقق الا هذه اللحظة وفي هذا المكان المرعب، كيف سأنام وهذا الرعب الطائر يكاد لا يتوقف؟ أنزلني تعبي الى الارض الباردة فرشت نصف البطانية وغطيت جسدي بنصفها الآخر…
صباح من الحرائق والأجساد المثقوبة بالشظايا، والمقذوفة على جوانب الطريق، رائحة الاجساد المشوية، نهار معطل عن الحياة فيما راح فلاحون من أهل المكان يخرجون الى الطريق يتطلعون نحو ما يحصل، واصلنا مسيرنا بين السيارات المحترقة دون أن ينسى السائق توجيهي نحو صور وجداريات كبيرة أمام الوحدات العسكرية المتواجدة على الطريق وقد اخترقتها طلقات رصاص وجهت اليها عن قرب!


عجلات هنا وهناك محترقة، أو مدمرة، على أطرافها أجساد غافية، لم تزل مبللة بالدم أو أخرى مهملة على طرف الشارع، الأرض تكاد تنكمش على أطرافها وتفز مذعورة كي تنظم الينا، جسداً قابلاً للتهشيم معنا، وسريعاً سريعاً خذنا يا ابن هليل، طالما ان الضباب خيم على كل شيء وعله الضباب يكون مظلتنا الواقية من جحيم أسراب طيور الألمنيوم ومخالبها الوحشية الجارحة! آه يا صباح أجسادنا المبللة بكل شيء، المرتجفة، المرعوبة، المحمومة، المسممة، الغضة، وعلى مهل، بل لتتأخر خيوطك الضوئية يا شمس، هكذا كنت أبتهل بل كنت أشبه ببدوي يعزف على ربابته أدفع جذعي الى أمام وأعود به الى الخلف، وأي عزف بصحبة الاجساد المحترقة؟ وصلنا عند نقطة كانت شبه مغلقة بحطام الآليات وكالعادة تناثرت أجساد الرجال حولها، وتولت إحدى الدبابات فتح الطريق ودفعت بأكوام الحديد جانباً ومررنا من تلك الفتحة بسرعة، غير إن المشهد تكرر ثانية عند عنق (جسر مجنون الجديدي) فثمة ضربة سبقتنا الى المكان والحطام لم يزل ساخناً والدخان اختلط بالضباب الذي تكاثف وعانق أطراف القصب والبردى الذي وفر لنا مكاناً مناسباً للاختباء بين سيقانه الطويلة التي راحت تطلق حفيفها وتتمايل إثر خلخلة الهواء التي سببتها ضربة الطائرة القوية، الشظايا طارت فوق رأسي وعن قرب سمعت صوت استغاثة… قررت حينها ان اواصل طريقي هكذا بين الاغصان، بين الجداول وعلى إمتداد الارض الطينية وبعيداً عن مخاطر الطريق الذي أصبح فخاً مهلكاً لسالكيه، ووجدت فيه الطائرات المغيرة صيداً سهلاً للمزيد من الاجساد، مشاريع الاستشهاد -كما تحب أجهزة الإعلام تسمية العراقيين-، ومرة إخرى يخرج (طالب هليل) بعجلته من المحرقة سالماً! وبدأ يضرب على منبه العجلة داعياً ايانا للركوب مجدداً.
تركت قراري الذي اتخذته للتو، جانباً! وركبت بسرعة فيما راح الجنود يقذفون بانفسهم في بدن العجلة ومعهم جاء جنود جرحى من غير وحدتنا والذين بامكانهم الحركة وصعدوا ايضاً المشهد يكاد يتكرر على امتداد الطريق: نثار أجساد مرمية على قارعة الطريق، غير إنني لن أنساه اطلاقاً، مشهد ذلك الجندي الشاب وهو جالس على طرق الطريق والدماء تكاد تغطي كتفيه وظهره، إستدار بوجهه نحو الافق، وامتداد العشب والطين، كان يحرك رأسه باطراقه، بندم كنت أعرفه، ظهره الينا وآخر الضياء في عينيه يختلط بآخر الضباب الذي بدأ ينقشع، وحين تجاوزته أخرجت برأسي من النافذة وتابعت حركة جذعه البطيئة الى أمام والى خلف! يا الهي للتو كنت أتحرك هكذا… أهذا هو إيقاع اقتراب الجسد من الموت؟ آه يده لم تزل تشير الى الإفق، الى مكان ما كان يراه تلك اللحظة وظهره للمجزرة!
الشمس هزمت الضباب وحل الصباح علينا ونحن في أقصى طرف الهزيمة، نرحل على عجل ولكن الى أين؟ ضاقت بنا الأرض، وطافت فوقنا مجدداً طائرتان التمعت اجنحتهما بتأثير الشمس الطرية، نبهت سائق العجلة الى ضرورة التوقف والترجل من العجلة، إنتشرنا مجموعات صغيرة بين طيات الأرض، وعشبها الأخضر الندي إحتضن أجسادنا واستقبل هلعنا ببرودته، وقفت عند ربوة ترابية فيما ابتعد عني الأخرون، وذهبوا الى العمق على عجل، وشاهدت كيف نزلت أربعة صواريخ تماماً على تجمعاتنا الصغيرة. تلك اللحظة لا أدري كيف توجهت بالعتاب الى روح أمي -التي جاءت الي في المنام قبل يومين، وأخبرتني بانني سأعود الى بيتي سالماً يا امي- سألتها: كيف يا أمي تقولين بسلامتي وهذا الموت يهبط الي بأزيزه النافر وباجنحته المفتوحة الى اقصاها؟ وتابعت الصواريخ حتى مسافة قريبة قبل أن تفترق الى إتجاهين واثنان بكل إتجاه لتصيب أربع عجلات على الطريق وتناثرت الشظايا وظلت عجلتنا بين حريقين، بين نارين نتأملها وهي مسمرة على الطريق وكأنها تنادينا: هيا فالرحلة طويلة، ومن نثار ما تبقى من مجموعات الجنود، بدأت صيحات تتعالى، هستيريا لمشاهد تتضمن حركات مثل الارتفاع الى فوق ثم الإرتماء على الأرض… عناق بين إثنين ثم يفترقنان وكل منهما يغطي وجهه بكفيه! بدأت العجلات بالتوقف والجنود بين رواح ومجيء، قفزات متبادلة وعناق وبكاء، تحاملت على بقاياي المتشظية وأثناء مسيري أحسست بعجزي عن الحركة، أحسست أن ظهري قد انكسر! وعرفت حدود التوصيف لتلك الكلمة وكيف تقال لمن تقع عليه نائبة من النوائب، نعم إنكسر ظهري… إنكسر ظهر بلادي… إنكسر ظهري… حين وصلت الى تلك المجموعات عرفت أن الثامنة صباحاً -أي بعد دقيقتين من الان- ستكون موعداً لوقف اطلاق النار!!… كيف اذن سمحوا لانفسهم بقتلنا قبل خمس دقائق لا غير… خمس دقائق كانت تفصل فتية كثيرين عن الحياة؟ قذفت بنفسي على طرف داخلي من ساقية جافة، لا كانت رطبة! ورحت أبحث عن علبة الدخان، أخرجت سيجارة داعبتها بين أصابعي واستنشقت دخانها بعمق وبالكاد أمسكت بها وأصابعي ترتجف…


إمتلكت زمام نفسي وقذفت بجسدي والاخرون سبقوني الى العجلة التي نشطت بنا وراحت تجتاز الطريق وخلفنا كنا نترك الحرائق ونثار إخوتنا، فيما رحنا جميعاً نبكي في نحيب جماعي… نائحون في صباح مجنون وذاهبون نحو مداخل مدن الجنوب الصغير التي خرج اهلها يتساءلون عبر مشهدنا الخاطف عن كل الذي جرى، عن ابن، عن شقيق، عن زوج، عنا ايضاً… نسوة كثر نثرن التراب على رؤوسهن واخريات يضربن بالكف على الصدور… نعم هو يوم التراب على الرؤوس وشق الصدور… بل هو تاريخ استعادي لمذابح جرت هنا دائماً… -راديو ترانستور، يحمله احد الجنود يلتقط اذاعة بغداد وهي تذيع اغنية تقول: "كل شي يهون مادام انت سالم سيدي"!! طبعاً، لا شيء يهم، المدن التي دخلتها تشير الى غربة ووقائع مرة وتشير الى هزيمة معلنة هذه المرة، في المدخل المؤدي الى مدينة (واسط) استقبلنا صبي باشارة النصر ولكنه تعمد وضعها بالشكل المعاكس فاصبحت (7) بفتحة تتجه الى اسفل (8)!! نعم ايها الصبي لك الحق في كل ذلك… طين هزيمتنا هو ما نحمله اليك، ولك ان تبحث عن طريق يبدأ من هنا من حيث انتهينا الى فوضى هذه العودة الدموية…
عند منعطف لشارع الحي الشعبي الذي تسكنه زوجتي في دار اهلها، استدارت بي العجلة، واقتربت من الدار وانفتح الباب ليظهر ابني بملامح ترابية مفزوعة… آه يا ولدي… آه يا قلبي… آه يا بلادي المحزونة… آه جسدك الغض المفزوع، آه يا حضنك الطري، النسوة يخرجن الي تباعاً بالعويل والعناق، تعالي اذن ايتها الحبيبة وخذي جسدي المخضب وروحي المفتتة الى ما تبقى من قدرتنا على الخروج الى صباحات تالية…

*الكوت في  2  آذار 1991

مقالات متعلقة
  • قبة النار 4



  •  

     

     

    Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

    Powered and Designed by ENANA.COM