قبة النار 4

ِعلي عبد الامير

تاريخ النشر       14/11/2009 06:00 AM



13/2/1991
الكارثة تكشف عن ساقيها…
الكارثة التي ترسمها تقارير الصحافة، بدأت تتكشف عن عمقها على الارض، هناك حيث تتعرض المدن العراقية لمخاطر التلوث والتهديد بانتشار الاوبئة، وهذا جراء فقدان الماء الصافي والكهرباء والخدمات الصحية وفيضان مياه المجاري، لم تكن مخاوفي ولم يكن قلقي الا في محلهما، فها هي الكارثة تطرق أبواب مدننا وأهلنا، وشوارعنا تغرق في ظلامها وتنتحب الارصفة وتفتقد الخطوات والضجيج الحلو، ها هي (الحفلة) قاربت على الانتهاء ولكن لم كل هذا؟ لم كل هذا الظلام؟ لم كل هذه النعوش تسافر الى التراب؟ ولم أطفالنا خنقوا وتاهت أنفسهم بين تلال الرعب والمخاوف؟ أيعقل ان كل هذا دفعنا اليه باذرع ومخططات متشابكة؟ حروب دائماً هناك حروب ودماء وأعداء ومبررات وهجمات وهجمات مضادة، أيعقل إننا احتملنا كل هذا الرعب منذ اوائل الثمانينات؟ وهل يعقل إننا كنا أدوات تنفيذه ووسائله المباشرة دون وعي؟ انا احسب ان غياب التكافل الاجتماعي ومنظوماته الفاعلة كان هو السبب الذي جعل المخاطر الجماعية تتفتت الى مصائر فردية! حتى اذا وصلنا الى خطر الابادة الجماعية، عاد (الوعي) الى فاقديه وبدأوا يرون المشهد بوضوح ولكن بعد ماذا؟ بعد أن طال الحريق كل شيء… وآه منك يا عراق يا "آية للزمن" كما تقول الاذاعة… آه من الفضاء المخرب حولك، الى أين ستمضي بالصفاء المتبقي في روحك و"المعاني السود" تتقدم نحوك وتحاصرك من كل صوب؟
هذا الصباح تمعنت في ملامح وجهي اثناء الحلاقة –تركت لحيتي تنبت قليلاً- وجدت وجهي شاحباً وقد انطفأت فيه التماعات كانت تصعد اليه من جوانبه حية لم تكن الا قوية وتزداد عناداً ضد محاولات تخريبها، ومثلما "رادار الاواكس شوش على الاذان" كما تقول اغنية "الله اكبر" لمغن عربي يناصر العراق، شوشت الحرب وتفاصيلها على كل الخزين من الذكريات التي بقيت لي زاداً اخفف به من جوع الحياة هنا، لكن ثمة ذكرى باقية كجرح مفتوح في حياتي وتنأى عن كل التهديدات وتبقى مناراً يضيء عتمة حياتي، ويرسم لها مدخلاً جديداً حتى بعد ان يغلق اخر، فاليوم وقبل عامين ماتت امي سبقها ابي الى  التراب باسبوع، ماتت وأبقت لي المعاني التي مثلتها تلك الحياة الخصبة التي عاشتها، ماتت وتركت لنا إزارها الابيض وفرشة الصلاة وروحها الصافية ودموعها وقلقها وينبوع حنينها، الذي طالما شربت منه فارتويت، ارتويت ولم يزل نبعاً يتدفق، آه يا جليلة لو تدرين ما الذي  فعلت بي الطائرات؟ آه لو تدرين اين انا الان؟ ولكن ذلك يتحقق الان فأراها حماماتك تطير من أكتافك وأكفك وتأتي لزيارتي وتهدئ روحي وتزيل عنها الفزع، بها، بدعائك، بتراتيل السلامة خرجت من كل هذه الفخاخ التي نصبها الموت، فسلاماً على روحك الذهب وسلاماً على حنينك الصافي المتألق، لوأنني ارتويت منه، فسأطلب منك إبتهالاً اخرى، كي أعود الى بيتي، فها أنت غائبة وقد حضر الينا طفل جديد، تركته على صدر أمه الحزينة التعبى، تعبت يا أمي وأثقلني حمل الاسى وهز ثناياي هذا الدمار، وبك وباسمك وبما تركته من معان سلسة وتغرف من الخير والجمال، سأستعين لأخرج للايام وبصوت مدو أصيح، بالقبيح الذي تجيء به: ها أنذا فلتأخذي مني ما تشائين وما سيبقى يكفيني لمواجهة المعاني السود، ويا روحك الطيبة يا أبي، يا اعتدال ميزان ما أهتز تحت تأثير النوائب، أرى انك تنتحب للشدائد التي تعصب بي -أتذكر هنا نهارات  العاشر من محرم حين نستعيد موقعة الامام الحسين (ع) وكيف كنت تنتحب بصوت مكتوم يتردد بين جدران بيتنا ويملأه صدى شجياً- عفيفاً يا أبي غادرت الحياة، منسجماً الى ما أخذتك اليه خطاك، وها هي ذكرى رحيلك الثانية إتكاءة أستريح اليها، وبما تبعثه الان في روحي من شجن عميق، أطرد به الفزع والمخاوف وأخرج به من قبة البارود التي أحاطت بحياتي.

14/2/1991
الملجأ… أو حكاية مقبرة لأحلام الطفولة…
هرست أجساد المئات من الناس في ملجأ بالعامرية، جنوبي غربي بغداد، بينما يصر الجنرالات الامريكان على اعتباره هدفاً عسكرياً واستراتيجياً ايضاً ضمن فكرة تقول باستخدام  الملجأ من قبل القيادة العراقية ( هذا لا أستبعده ) . قبل أيام كتبت عن أجسادنا كعلامات رخيصة لوجودنا ككائنات مهشمة، تتوزع في حقل تجارب للقذائف ووسائل التوجيه المتقدمة، وها هي الاحداث تؤكد يقيني، فقد هرست الاجساد الغضة وطارت الاحلام الى مدار الرعب ومات الياسمين، وتدفق البارود في الرئات، شظايا تلتصق بها أجزاء من جسد طفل أو جديلة أمرأة وكتف صبي وحذاء لطفلة ما زالت تلتصق بجزء من ساقها! ولم لا فهو هدف استراتيجي، بل هو هرم كآبتنا واحلامنا، لقد اظلمت الليالي في مدننا لتزداد العتمة في اروحنا، وها هي العتمة تزحف على بقية اليوم ويصبح النهار اسود حالكاً، فموج من النعوش سيغطي شوارعنا وستكتظ مقابرنا بالمزيد من ركام وانقاض الاحلام، هكذا تمضون في استباحة دمنا وبمرح بالغ تنشرون قمصان أطفالنا الممزقة والمبللة بالدم والتي التصقت بها بقايا أجسادهم الغضة، فشكراً لكم، لزيادتكم شحنة الحزن في اغنياتنا القادمة، ولطردكم الغيوم من سمائنا لانها تعكر من مزاج الطيارين الحاملين هداياهم لنا، شكراً وتبجيلاً لانجازكم الفذ! وحين تريدون أخباراً منا، فأقول إننا نتظر، نهايتنا لن تكون بعيدة، وقطعت خطوطنا ولا إتصال مع أي شيء لنا، سوى أحلامنا الميتة، شخصياً ما عادت شبكة الدخان المتقاطعة التي تشكلها الطائرات المغيرة فوق موقعنا، تشكل عندي حتى مبعث القلق البسيط، دمنا مستباح ، وأفقنا مقطع الاوصال كما أرضنا، ولكنني أعيد ثانية ما قلته في كتابتي لمحاولة رواية قبل اكثر من 12 سنة: إنني مهزوم لكنني لم أجد عدواً يليق باستسلامي له.

15/2/1991
حكاية التراب الذي عفّر حياتي
لو قيض لي أن أخرج من هذه المحنة، معافى جسدياً على الاقل، فماذا سأفعل؟ وهذا المدار المحترق والأرض الممزقة الأوصال والناس التائهون في أوحالهم وهذه التركيبة المهزومة التي إسمها وطن، الذي كمم فمي وقلل من أحلامي، ما ستكون علاقتي بهذا التراب؟ الذي وسم مشاعري وحنيني ومسرتي وحزني العميق، تراني بقادر على الخروج من رائحته صوب أفق آخر؟
ايها المواطنون…
هكذا بدأت صوت المذيع (اياه) صاحب الصوت الجهوري وقارئ البيانات المرعبة التي ارتبطت دائماً بمعركة، موت، نذير شؤم أو حدث مميز ضمن هذه القائمة ستعيشه البلاد، هكذا بدأ يقرأ في بيان يعلن عن استعداد العراق للانسحاب من الكويت ولكن بشروط! وبدأت جولة من الترقب المشوب بالحذر… هرعت الى محطات الإذاعة لمراقبة ردود الفعل الاولية وما لبثت الامال التي اشرعت في صدور العراقيين ان ارتدت الى مبعثها كأمنيات مستحيلة، وانني لحظة سماعي للفقرة الاولى من البيان تملكني الفرح ولكن مع قلق عجيب فأنا أعرف تماماً طريقة تفكير القيادة العراقية وولعها بالغموض والانشاء في بياناتها الصادرة، وما إن جاءت الفقرة التي تشير لشروط العراق! قلت مع نفسي: لقد بدأ الخرط!!
نعم جاءت تعليقات محطات الاذاعات العالمية بحذرها اولاً ثم برفضها لاحقاً للاعلان العراقي، ولم ينس جورج بوش ان يشير لاسفه تخييب أمل العراقيين وشعورهم بالفرح الغامر بل ان يعلن عن "خدعة وقسوة" ينطوي عليهما البيان العراقي -تمعن اللغة والوصف المتداخل (خدعة) و (قسوة)- لقد انتهى شوط من الفرح السريع والقصير -اطلق العراقيون نار بنادقهم فرحاً… حتى الفرح عندهم بنادق ونار!!- لكن ثمة تفصيلات اخرى حقيقية، فكم استفاقت الحياة في أركان صغيرة وفي ثنايا النفوس، وكيف بدأت المشاعر تستيقظ بعد طول رفقة مع الرعب والخوف والقلق، كم من الخطوات ارتسمت وهي تتلمس طريقها نحو فسحة للحياة؟
كل هذه المشاعر والآمال تصاعدت بقوة، غير ان الأخبار التي جاءت مع الساعة الثامنة مساء كانت كفيلة باغتيالها تماماً!!

17 / 2/ 1991صباح اسود
صباح أسود… نعم أسود، ليس بسبب العتمة الداخلية وكثافتها التي تتزايد يوماً بعد اخر، بل هو أسود لما شكلته الغيوم الناتجة عن إحتراق ابار البترول ومعامل التكرير والبتروكيماويات من طبقات متماسكة حجبت الشمس تماماً، وبدت الثالثة بعد الظهر وكأنها لحظة الغروب وانخفضت درجات الحرارة دون معدلاتها، وأطبق الدخان على الأفق وتداخلا في عناق حميم، حريق إذن هذا النهار، وهو صورة مكثفة للنهارات السود التي نعيشها، ضحايا وكوارث وتهديم لبنية البلاد الاقتصادية، وقبل ذلك إنسانه!
لقد صغرت أسئلتي عن غربتي في وعي الكارثة يوم لم يكن من وقائعها الراهنة قد ظهر شيء بعد، لقد اضمحلت الاسئلة والسبب: لان الكارثة حلت بين الناس وبقوة هائلة نسفت كل (السواتر) التي بنيت حول الناس وكل الحواجز الحديدية التي فصلتهم عن رؤية مسافة أمتار من مستقبل ما! قد أموت وهذا هو المرجح حالياً وفي منظور تطور الأحداث القريب وسأخسر بهجتي الصغيرة وجلسات الشجن مع روحي في ساعة موسيقى او أغنية من النوع الروحي العميق، ستذهب أحلامي وسيوحشني دفء الغرف في منزلي، سأخسر متعة القراءة، كل هذا من أجل أن يحيا (الكركدن) الذي يمضي بفوضاه ساحقاً باقدامه الثقيلة كل زهرات مباهجنا الصغيرة، اولئك نحن الذين عشنا تجربة ذاتية مع الحرية والمعرفة، ها هو (الكركدن) خارج حقله المحترق يسحق كل شيء ويتغوط عند ضفاف الأنهار فتذعر النسوة المشغولات بغسيل القمصان والاكفان معاً!
أعلل نفسي لأقول: ليس نهاية العالم أن أموت، ولن تصبح الحياة بعدي صخرة، ولكنني حزين على سهولنا وملامحنا وهي تحترق والكركدن بفوضاه يسحق كل شيء، هل من المعقول حرق غابة باكملها من اجل الامساك بكركدن!
 

20/2/1991
اذاعات … اذاعات
"ساعات الفرصة الاخيرة"، "قنابل لتفجير حقول الالغام"، "مقذوفات خاصة لبتر الاعضاء" و وخطط لا تنتهي لهلاكنا! في الأفق غارة، وتهتز تحت قدمي الأرض، خطوات تتعثر في هروبها، نحو الأفق تطير الافئدة فيما يستغرق الدم بعزف نشيده المتواصل، وتتواصل العناوين: فاينانشال تايمز، هيرالد تربيون، الرأي، الاهرام، القبس، الثورة (ثورات كثيرة تضرب كالعادة بيد من حديد) ،الراية، واشنطن بوست، دير شبيغل، لوموند، ليبراسيون، الشرق الاوسط، الاحرار (اينهم حقاً؟ )،الايكونومست، الشعب ( كالعادة هي صوته المعبر!!) ، شتيرن،  هاعولام هازيه – (يا هذا العالم احتكم لضمير ما  ذات مرة!)- پاري ماتش، الدستور (كم هو مصان في البلدان العربية)، لوس انجلوس تايمز، كلها تنذرنا بخسارتها جراء تغطيتها لاخبار الخليج- صحف ومجلات وكتاب تقارير اخبارية، محللون عسكريون، تربويون وغيرهم سيجدون في مذابحنا/ انتصاراتهم ما يكفي للسبق والتحليل والفبركة والغطرسة ايضاً، اذاعة لندن تقدم برنامجاً خاصاً من التأثيرات المباشرة للحرب –عبر المشاهد المتلفزة طبعاً- على الاطفال في بريطانيا! يا الهي  ما الذي يقوله الاطفال في بلادنا إذن حين تسقط عليهم وعلى مدنهم وبيوتهم القذائف الموجهة والصواريخ (الذكية)؟ لابل ان المتحدثين ذهبوا الى ان تأثيرات مشاهد الحرب وعند الاطفال الذين ذهب اباؤهم الى الحرب في الخليج ستستمر فترة طويلة، ماذا يقول اطفالنا حين خرج ملايين الاباء؟ نصف مليون اب على الاقل خلال حرب السنوات الثماني ذهبوا بلا عودة، أيمكن ان تكون الحقائق هكذا ملوية الاعناق ومغيبة تماماً؟
سي ان ان  وعبر مراسلها پيتر آرنيت في بغداد، أعلن من غرفته في فندق الرشيد بداية الحرب الجوية، وبدأ يسوق الوقائع حسب طريقته الى العالم: سي بي أس  و بي بي سي عند الملجأ المهدم في العامرية وعدة زوايا لالتقاط مشهد الجثث المتفحمة!!
المارشات العسكرية هي لحن الاذاعات المفضل، الخرائط التي توضح الطرق المؤدية الى قتلنا على أبواب الصحراء مطلوبة هنا كثيراً! -في الولايات المتحدة طبعاً- كتب في التحليل النفسي لشخصية صدام حسين وأخرى تحقق هذه الايام مبيعات عالية مثل "جمهورية الخوف" لكاتب عراقي مقيم في اميركا  وقصص كردية في اسلوب الپوستر السياسي للكاتب سامي عبد الرحمن -الذي التقاه الراديو السعودي وارعبني بذكر اسم لصديق من بين العديد من ضحايا الاغتيال في كردستان العراق، دلشاد مريواني الشاعر والقاص والمترجم الذي عرفت من خلاله بقاعاً لا احلى ولا اجمل من بلاد، وعرفت من خلاله تلك الشخصية شبه الاسطورية للكردي العراقي الحقيقي، وداعاً ابا سيفا، سأتذكر ما حييث لحظات اشتعالنا البهي بالصداقة والكلمات، سأتذكر ترجمتنا المشتركة لقصائدك: "سمفونية البنفسج" او قصيدتي المهداة الى الكرد " السائر تحت غيوم ناوپردان". عبد الرحمن الابنودي يصف المتظاهرين الذين خرجوا في بعض العواصم العربية لايقاف المذبحة ضد الشعب العراقي، بأنهم مجموعات من الرعاع!! ماذا ابقيتم للجنرال شوارزكوف…؟ وجنرال عاطل عن البسالة في جيش عربي "شقيق " يستغرب كل الحملة وتكاليفها، ويصرح عن امكانياته في تلقيننا الدرس المطلوب!
مفاوضات… إنسحاب دون شروط… الخط الساخن في دبلوماسية طهران - موسكو يأتي عبر رحلة مكوكية لرجل الدبلوماسية العراقية الاول  طارق عزيز،  تجهمت الولايات المتحدة من المبادرة السوفييتية فيما وصفها فيتزووتر الناطق الرسمي للبيت الابيض بانها مشوشة ولا تنسجم مع المتطلبات الامريكية لانهاء الحرب. إنفجارات هائلة قربنا والطائرات تتقاطع في خطوط الدخان المنبعثة من محركاتها والتي ترسم في السماء أشكالاً تذكرنا بالألعاب الجوية والطيران الإستعراضي، إطلاقات من الرشاشات والأسلحة الخفيفة لخبر قبول العراق مبدأ الانسحاب من الكويت دون شروط، كما أذاعه راديو طهران.
 بغداد شهدت أعنف الغارات في موسم "عاصة الصحراء" صباح المطر هنا… ولكنه مطر حامضي كما تصفه إجهزة الانواء الجوية، فالغيوم علق بها الكثير من الدخان الذي تصاعد إثر قصف المنشآت البترولية على الخليج، والمطر الساقط بدأ في تأثيره على الحقول والنبات، ومضغ أوراق الشجر بتركيبه الجديد، لقد نزل المطر الحامضي وتركنا أسرى الهدوء الغامض، كما ترك الاشجار للذبول…

مقالات متعلقة
  • قبة النار 5



  •  

     

     

    Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

    Powered and Designed by ENANA.COM