طلع الفجر علينا في الطريق بين (الحي) و(الكوت) والبطانية لم تحمني من تيارات الهواء البارد الذي يدخل من عدة فتحات في سيارتنا البائسة، والسائق اظهر شجاعة نادرة على مواجهة البرد والنعاس والتعب والقلق والخوف. ناصر محمد يا ابن (الحي) تحياتي اليك دائماً.
ثقبان كبيران في "جسر تموز" الذي يتقوس على نهر دجلة، غير ان الإصابة هذه لم تمنع المرور عليه، لكنهم سيعودون اليه بالتأكيد. عبرت الجسر والشمس تغمر المدينة بضوء مبهج وما لبثت أن وصلت الضاحية التي يقطنها أهل زوجتي، بتأثير صوت محرك السيارة وجلبته - حركة السيارة بدت شيئاً لافتاً في المدن العراقية منذ بداية الحرب لندرة الوقود- خرجت إبنة (محمد ) شقيق زوجتي وصاحت هبة : إنه ولد حلو… أحلى من سلام.
التفت الي السائق ومد لي يده وأخذ كتفي بالاخرى وعانقني وقال: عساه مولود الخير والبركة، خرج لي أهل الدار تباعاً… فرح يختلط بالدموع واذرع تنفتح على آخرها… ثم جاءت الي الحبيبة شاحبة، تتحرك ببطء وتلف جسدها بملابس ثقيلة لتدفن رأسها في صدري وتبكي… نعم: إابك أيتها الشقية حطام أحلامنا وقلقنا، وما تحملناه من أعباء لقادر على الفتك بقطيع ثيران مرة واحدة، ودون ان أدري كان (سلام) قد إلتصق بساقي وسحب ملابسي كي أنتبه اليه… ياه أنت أمامي الان، ماذا فعلت بي؟ تعال الآن وليأت بعدك الطوفان، ذهبنا نحن الثلاثة الى مهد من الخيزران نام فيه طفلي الصغير، رحت أتطلع نحوه وكأنني اسأله: ما الذي جئت به الي معك؟ وكيف ستخترق حقل الألغام والأشواك معي؟
جورج بوش يخطب في الكونغرس هذا الصباح ويقدم على المنصة، زوجتي كولن پاول ونورمان شوارزكوف في إستعراض أميركي مبهر للقوة: لقد انتهى هذا اليوم معنى الهزيمة في فيتنام! عبقرية العقل الامريكي تفتقت وصممت ونفذت إنتصارها الدموي علينا كملاذ من رعب ظل يطاردها دائماً ويوصمها بالعجز، رعب الهزيمة في فيتنام، ويضيف: القوة الامريكية هي تمثيل للمعاني الانسانية السامية.
3/2/1991
رسائل من الجانب الآخر:
بعد عودتي الى المعسكر من اجازتي القصيرة ، استلمت هذا اليوم رسالة من صديقي… ورحت افتحها بشوق اعتماداً على احساسه بالامان النسبي هناك، الامان ذاك وجدته وقد تحول شيئاً فشيئاً عنده الى كوابيس متداخلة، فهو يقول: منذ يومين ونحن نحاصر في ثكنتنا القريبة من مدينة "الجهراء" بل اننا وقعنا في فخ حقيقي، قذائف موقوتة والغام انتشرت على امتاد مساحة كبيرة ومقتربات الطريق الرئيي الذي يربط الكويت بالبصرة• والالغام هذه حكايتها حكاية، فقد توزعت حولنا وعلى مداخل المبنى الذي اصبح ثكنة لنا، بعد ان اسقطتها الطائرات قبل يومين، كنت قد ذهبت الى الملجأ للنوم غير ان انفجار القذائف المتتالي منعني من ذلك، سمعت صوت شيء ثقيل يتحرك على سقف الملجأ، المتكون من الصفيح والاعمدة الحديدية المغطى بالتراب، في الصباح المبكر ايقظني صوت مرتبك يقول: انهض ايها النائم، هناك لغم فوق الملجأ، حين خرجت ارتسم امامي منظر اقرب الى المجزرة، اصوات استغاثة متقطعة تطلب العون، ألغام خضراء داكنة تنتشر في الباحة أامام الثكنة، وطرقها الداخلية وتحت عجلات وحدتنا وبابها الرئيسي، ثلاث سيارات محترقة وإثنان من الجنود جرحى وإثنان فقدا! أصوات الانفجارات تتوالى في فترات زمنية شبه ثابتة بين انفجار وآخر، الحريق هو أقرب الى ما أراه منه الى جو معركة، إنفجار يدوي، جسد يقذف الى فوق ثم يرتمي على التراب، أرعبتني طريقة سقوطه على الارض، دم متجمد بعد نزيف طويل على ما يبدو ووجه إلتصق على الأرض في رخص وابتذال، قلت مع نفسي: أليست السماء مشرعة الأبواب؟ فيا إلهي العظيم، هذا بناؤك على الارض، الأنسان، ألم تر كيف سرقت منه نبضة الحياة على حين غفلة وبطريقة لا ترضاها حتى البهائم؟
هذا الحريق جعل العديد من مراتب الفصيل يختفون فجأة! قد يكونون الان اجتازوا نقاط التفتيش وعبروا سيطرات الإنضباط العسكري، أو وقعوا في شباك الاستبخارات العسكرية و(لجان الاعدام)، غير ان هذا الإحتمال يضعف يوماً بعد آخر فحتى هؤلاء تعرضوا للقصف مما جعلهم يختفون من المراكز المهمة ونقاط الطريق الرئيسية، أتمنى ان يصلوا الى بيوتهم بسلام كي يقللوا من وحشة تلك البيوت، هذه الحالات ستجدها كأرقام ومواقف في البرقيات التي ينقلها البريد اليكم… محبتي لك.
5/2/1991
المنازل -القلوب
صديقي وصل اليوم جريحاً، بساق وضعت في الجبس وعصا يتوكأ عليها! هرعت اليه وقابلني مبتسماً، ذهب في صمت عميق وأطرق رأسه ثم بكى حين حكيت له ما جرى هنا والأصدقاء والأخوة الذين رحلوا وطمرهم التراب عميقاً في الملجأ، ها هو في طريقه الآن الى البصرة ومن هناك علّه يجد طريقاً سهلاً للوصول الى منزله في بغداد، دون أن ينسى على الرغم من اصابته -إنفجر قربه لغم موقوت- أن يطلب مني ما كتبت كي يأخذه معه كما إتفقنا… وهكذا فعلت… إحتضنني وهو يقول: سأذهب الى منزلي، أتمنى لك ذلك… متى سنرتاح؟
البيوت -المنازل (ولك يا منازل في القلوب منازل) وبيتي مهجور منذ بداية الاجتياح، هدأت في جنباته أغنيات زوجتي حين تردد مع الصوت المنبعث من جهاز الموسيقى أغنيات جورج مايكل أو "ستنغ" أو جوهرة الصوت "شاداي"، أو تلك التي تحبها قبل خروجنا في الصباح الى العمل، أغنيات رقيقة الصباح، فيروز. هدأت أصوات إبني سلام وتبعثرت في أركان الصمت دراجته الهوائية، وكراته المطاطية الملونة ومكعبات الميكانو، خفتت تلك الإيقاعات وأستحالت الى صمت قاتل منذ أن رحلت زوجتي الى أهلها، وحاولت مراراً تبديده في كل مرة أجيء الى صالته وغرفه ومطبخه حين أصل في إجازة أو مأمورية، إذن ماذا لو أتيت لكم الان؟ وتركت كل شيء الى الحريق، بدأت أحسب هذا الامر وأقلبه في رأسي لعدة مرات، ماذا لو أتيت وأخذتكم الى منزلنا؟ ماذا لو عشنا لحظة مشتركة اخرى؟ ولكن كيف؟ واية لحظة من الممكن أن نهدأ فيها وكل ما هو مرعب، ينشط حولنا؟ أية عوالم نستعيد وأية لحظة من الصفاء المشترك؟ هكذا تطمر الاسئلة "العاقلة" رغبتي كي أدخل في لوائح العمل الصارمة مجدداً وأتابع مستجدات الموقف الذي يبدو وكأنه ذاهب الى فوضى تامة، وكل ما نفعله هو الهروب من تأثيرات القصف الجوي، ولكن الى أين؟ فهو يطيل كل شيء! فشكراً للبلاد على إفق رعبها، ومنازل الجحيم المؤقتة، ووداعاً يا حياة أقمناها هناك على وهم، وها هي الحقيقة مجردة: حطب مآله الى النار المستعرة.
11/2/1991
(أوكازيون) أجسادنا الرخيصة…
أين يا نفس تمضين بي ؟ آه يا تطلعات ما الذي فعلته بي؟ كيف يا رؤى تأخذيني هكذا الى مسافة رحيبة من بهجة الاكتشاف؟ ثم بعد كل التوق والتوثب والتأجيل والانتظار، ها أنذا تحت قبه النار… إننا هنا نحترق وتكتم أفواهنا وتغلق عيوننا والعالم على مقربة منا يستبيح دمنا باسم تحطيم الماكنة العسكرية العراقية، هيا يا مؤسسات وهيا يا خبراء العسكرتاريا ووسائل الموت، فهي فرصة نادرة لتجريب ما عندكم من جديد الاعتدة والصواريخ ووسائل التوجيه الالكترونية، فلن تجدوا حقل تجارب أفضل منا، إختاروا قنابلكم الجديدة، إختاروا وسائل التدمير الجماعية والفردية وكل شيء، لن تجدوا أرخص منا كائنات للتجربة، وحتى "خنازير غينيا" لها ثمن وسوق تبادلات تجارية، لا بل إنها تنقل بصناديق نظيفة في الطائرات وصولا الى مختبرات نظيفة ومضاءة ويقدم لها العلف النظيف وحتى إنها تقتل بعد إجراء التجارب العلمية بهدوء وراحة -تعطى كمية مضاعفة من المخدر- بينما أجسادنا تلقى على قارعة الطريق، محترقة ومشوهة ومنخوبة بالرصاص، ولها رائحة عفنة أحياناً، فهيا يا قنابل هيا يا قذائف إنطلقي برؤوس المواد شديدة الإشتعال وتعالي الى تجمعاتنا وعجلاتنا وملاجئنا ودوري على رؤوسنا واقطفي ما شئت منها ولتطفأ في العيون إلتماعتها ولتسكت حتى حشرجات وتلعثمات الخوف، لا أحد سيسأل لم كل هذا؟ إقذفي بنا على الرمل البارد الخفيف وعلى الإسفلت المحفور من قنابل سابقة، دماؤنا لتسيل على حافات الملاجئ، على العجلات، ولتترك خطوطها على ملابسنا الممزقة على أحذيتنا، وسارعوا يا من تطلبوننا ثأراً او خلافاً او رغبة تساوركم في تحريك جنرالات جيوشكم المعطلة، سارعوا فهو موسم الواجبات والعمليات البطولية وهي الفرصة مؤاتية فأمامكم إنسان مهزوم، خائر الروح، عبثت به الأقدار ودمرته شهوة السلطة، وأضاف هو ذاته عظمة كاذبة اليها وانساق طائعاً الى مؤسساتها ودمرّ دون أن يدري سلم الأولويات ، وداس بقدمه التائهة على الكثير من القيم والمعالم الاساسية لحياة أي مجتمع. موسم للتنزيلات الهائلة، نعم (اوكازيون) الاجساد الرخيصة وهي قادرة مع حقولنا و ضفافنا وودياننا و هضابنا على تحمل جحيمكم ( 60 الف طلعة جوية واكثر من 40 الف طن من المقذوفات) منذ بداية عمليتكم "عاصفة الصحراء" تحملتها الارض بكل معالمها، المدن والعمارات والمصانع والجسور والاجساد بالطبع، حتى ليبدو ان الفضاء ما عاد ليتسع للمزيد من رائحة البارود فيرده الى صدورنا عنوة ويفجر في دمنا المزيد من الكهوف الغائرة ليستقر هناك، نتوءات سود لزمن معتم وقذر•
آه يا رؤى ويا أحلام ويا ضوء ويا معرفة ويا معاني حقيقية، ما الذي فعلته بي؟ عرباتي التي كانت منطلقة صوبك بخيول جامحة تكسرت دواليبها وفرت الخيول رعباً من "الـبي 52 "مع خيط التراب الذي كانت تخلفه! ها هنا أنا وحيد مع البقية المخذولة فيما حولنا السيوف مسلولة تنادي أعناقنا، لست بيائس وكانت إشاراتي للنذير ويومه القادم القريب مبعث إستهجان الناس وإستغرابهم حولي، قلت: حرباً، قالوا: ابداً، قلت: دمار وظلام ومجاعة، قالوا: لا تعرف التفاؤل، وهكذا فأنا لست بمستغرب كل الذي حصل، لكنني حزين لما تتعرض اليه الطفولة، تلك الأيدي الغضة ها هي تلوح في فراغ وهي فارغة دائماً، العيون تمتلئ بالعتمة والاحلام ذهبت الى رعب القذائف والخطوات متعثرة، لا نزهات، لا نشيد، لا حروف قراءة ولا رائحة النهار في باحات المدارس، لا شيء يمنحنا الاحساس بالزمن، تجمعي يا جحافل وتعالي فهو موسم تصفية الاوكازيون وأسعارنا رخيصة، رخصية "أكثر مما توقعوا يا اخوانا"، ودعوا جانباً ما تقوله اغنياتنا " الوطنية " عن "الفرح الذي يملأ الشوارع":
والشوارع مدري هيه من الفرح تحضن الناس
مدري هيه الناس من كثر الفرح تملي الشوارع
أيعقل ان إذاعة تقدم هذه الاغنية يومياً فيما البلاد تتحمل 3 الاف طن من المقذوفات، يومياً بالطبع؟ المذبحة تملأ بلادنا لا "فرح" الولاءات الكاذبة والخادعة، وأنتم مدعوون الى كرنفال موتنا المتواصل منذ 25 يوماً بلا توقف والحافل بمفاجآت لاحقة ستجلب لكم السرو، طالما ان أعناقنا هي المشكلة.