الغروب ثانية… 21/1/1991 الغروب البارد يثير يأسي مثلي كانت تفعل اذاعتنا التي كفاني التشويش شر الاستماع اليها وشر الاستماع الى أخبار مثل التي تصدرت النشرة الاخيرة لهذا النهار: إزدياد معدل البطالة في ايطاليا - تذكرت هنا جدلية غوار الطوشة الاثيرة: اذا اردت ان تعرف ماذا يحدث في ايطاليا، عليك ان تعرف ماذا يحدث في البرازيل، واذا اردت ان تعرف ماذا يحدث في البرازيل عليك ان تعرف ماذا يحدث في ايطاليا! أو أن تتوقف الاذاعة عن بث برامجها الحماسية لتعلن عن وصول برقية تأييد من عمّال البريد والبرق في الخرطوم!! وحضرني المثل الدارج: عرب وين… طنبورة وين… الغروب البارد يزيد يأسي مثلما فعلت إذاعتنا، فقطرات المطر تتساقط وسط جو ملبد بالغيوم والصمت الذي خيم على الثكنة وما حولها نتيجة غياب مؤقت على ما يبدو للطائرات المغيرة. الصمت في جو الرعب ورائحة الموت المنتشرة قادني للدخول في موجة ألم غامرة.
أصبحت أتفاعل مع الظلمة القسرية المفروضة على مرافق الثكنة وتمضي خطواتي في عتمة كثيفة (الحروب تبني الفة مع الظلام)، ها أنا أدخل الملجأ الذي رفضت الدخول اليه منذ ثلاثة ايام، وأستخدمت وسيلة في الاضاءة سبق أن تركها العراقيون منذ الربع الاول من هذا القرن في مدنهم المهددة بالاجتياح وظلت مستخدمة لفترة طويلة في الريف، واحدة من زجاجات (السفن آب) وقد امتلأت بالنفط وتدلى في وسطها شريط قماشي خرج من فتحتها العلوية التي اغلقت بواسطة حبة تمر. أخذت معي بعض أوراق الواجب وأخرى فارغة لكتابة بعض السطور دون أن أنسى الراديو طبعاً! أخرج في الصباح بعدة سعلات قوية وببلغم مغطى بلون سخام اسود (يشبه الحرب الى حد بعيد) كان ينبعث من الفانوس العراقي - اهكذا يجعلنا نقضي ايامنا فيما بيوتنا الى فراغ العتمة ووحشة الظلام! لما كل هذا مرّة اخرى؟ سحقني السؤال وتأتي الي البلاد يأخذها الرعب التام مما دفعت اليها من حرب قذرة، ليلتي الاولى في الملجأ حاولت أان أجعلها أكثر هدوءاً وأقل رعباً، فاستعنت لمؤانستي بكتاب بالانجليزية حمل عنوان "آيدنتتي" او الهوية، وفيه كتابة غرائبية بالصور ومقاربة بين مقاطع من شعر اليوت، اودن وفيليب لاركن وكولاج تعبيري في الصور- ولم ارفع عيني عن صفحاته الا حين إشتد القصف الجوي ودكت القذائف منطقة القاعدة الجوية القريبة منا – تحسست ذلك من التراب والرمل الذي إنهال علينا في الملجأ- أضحك على مضض حين يخبرني صديقي الذي يقاسمني الملجأ متسائلاً: هل تتوقع ان هذا الملجأ سوف لن يردم اجسادنا فيما لو سقطت قربنا قذيفة او صاروخ؟ بعد موجة القذائف الصاروخية الليلية، رحت في نوم متقطع بسبب الناموس الذي يتسلل بمهارة تحت البطانية الصوفية.
23/1/1991 صباح الاغنيات في الصباح نهضت بمزاج رائق وكأنني اخرج الى الحياة مجدداً، كنت اردد اغنية لكاظم الساهر! حلقت وجهي وغسلت شعري، مزيلاً عنه ما تعلق به من ذرات الرمل الناعمة، غيم في الافق وجوّ بارد رطب. صوت عبد الحليم حافظ بشجنه وعذوبة لحن اغنيته "انا لك على طول"، رقة متناهية وتطوير لمشاعر لا تتوافق والملاجئ، رمالها، ونيران الطائرات! أنتبه لنفسي، لشياطين رغباتها وأكاد اصرخ: أين أنا من هذا واحتمال الموت يطلع الينا كل لحظة، ثم من الاغاني الى صوت "هيام" الأثير مرة اخرى، صوتها الذي يقلل دائما وحشتي في الخنادق وظلام الثكنات: هل لكم برسائل تبعثون بها لذويكم عبر الاثير؟ –هذا ما تقوله هيام، عبر اذاعة "مونت كارلو"، وحتى هذا نحن الذين هجرتهم ونفتهم حروب الخليج لسنا بقادرين حتى على الحلم به، هيام تقلل من آثام الدفء الانثوي في صوتها وتقلل من وحشتي حين تقدم فيروز في اغنية "طلع لي البكي"، الاغنيات ثانية توخز إنسانيتي التي تشتعل في أقصى دمارها، قد أموت الان، بعد لحظة، بعد أيام.. مرة اخرى تفجّر الأغنيات آمالا في ذاكرتي وتحيلها صدى إنفجار بعيد. إذن عليّ ايداع هذه السطور عند أحد هنا، فاخبرت صديقي الذي يقاسمني الملجأ بذلك، وافق وهو يضحك بلطف، كونه للتو عرف انه سيذهب الى مدينة الكويت لتعويض احد المهندسين والذي قتل أو "غاب"، لا احد يدري! واتفقنا معاً أن نوصل أوراق كل واحد منا الى أهله في حالة وفاة اي منا! كما اتفقنا على المراسلة، فثمة أكثر من بريد سيظل بيننا، زاد تعليقه من إلتباسي حين ودعته وحملت معه حقيبته وسلاحه الى السيارة اذ قال: اعتقد انني ساكون بامان اكثر هناك… اعتن انت بنفسك جيداً وارسل لي بالبريد (السري والشخصي) بعض ما تكتب وسأوافيك انا بما لدي من انطباعات مرفقة مع بريد نتائج القصف وبيان الخسائر والموقف اليومي للافراد والعتاد: اطمئن لا احد يفتح البريد (السري والشخصي)! و"يطلع لي البكاء" مثل فانوس عراقي يملأ انفاسي بسخام الحزن.
السابعة مساء: 42/1/1991 ثمن جريمتنا الجماعية… بعد صباح كالح كالرمل، إنساب من عمري- أي عمر؟- وبعد حلول اليأس التام في النفوس وحرق المزيد من الاصابع، وفضاءات الهواء في الرئتين نتيجة سيچارة مشتعلة دائماً، أحاول إيجاد منفذ لإقناع آمر وحدتي بالخروج من الثكنة ولو ليومين – دونما إعدام طبعاً- علّني أصل لخيوط من مصير عائلتي: أين سرب حماماتي الذي أودعته في ثنايا طفل لا أدري إن كان قد تنفس هذا الهواء؟ بالتأكيد لم يظل مكان أو فضاء طفولة لرفيف تلك الحمامات، الطائرات وفيرة وكريمة حد الإفراط في غاراتها وعصف قنابلها يأتي على تلك الفضاءات، ويلقيها كسرة من بارود متجلد فوق أسطح المدن والبيوت والشوارع. يأتي صوت الإعلان من الراديو ليقطع تأملاتي ساخرا: "أمامك حلم ومسافات، خلفك الحنين… عالم مارلبورو...تعال الى حيث النكهة تعال الى مارلبورو"- أين دموعك يا امي حين أخذت أطيل الغياب بين إجازة دورية وأخرى ومنذ أن أخذتني منك عمليات إجتياح الكويت، أين مرحك أين قبلاتك الناعمة كوردة؟ وأين الاذرع الطرية حول رقبتي؟، مدّي ذراعيك وفكّي عني خناق الوحشة. أسئلة وأسئلة ترديني الى فراغ شاحب: أهكذا أحلتني ياعراق؟ إرادة مستلبة وضعفا تاما في إتخاذ قرار شخصي بسيط، قرار ترك الاوامر الكالحة كما لون الافق الرملي الذي يحيط بي، تركها خلف ظهري والإحتفاظ بجوهر حياتي ولو لمرة واحدة، يبقي لي بعض كرامة شخصية، لكنني وسط دوامات تتشتت فيها نفسي وتيه في أصداء الألم والكآبات، أجد نبع حياتي وقد جف ومن هنا أقول: لتجف كل الاشياء حولي، ومن هنا يأتي الهدوء الي مع كل دمارات القصف الجوي والموت الذي يخط في سماء ذهّبت حافاتها أشعة الشمس التي حملت لوجوهنا وأذرعنا بعض الدفء الحميم.
خرجت من ملجأ امر الوحدة خائباً، فهو لم يوافق على الرغم من "براعتي" في إظهار ما كنت اراه سبباً مزدوجاً للخروج فيه الموضوعي والذاتي. اشتعلت المواقع الصناعية القريبة منا، الحديد والصلب، البتروكيماويات والذي اصبح محطة للتخلص من الفائض من القنابل، ونقطة تدريب للطيارين حديثي العهد بالقصف. نيران تستعر من القاعدة الجوية القريبة منا - ثمة محاولات لترحيلنا الى هناك، خاصة بعد خروجنا العملي من الخدمة وتدمير اجهزتنا-. الغارات تتواصل… وخلالها لا أدري كيف اهتديت الى عدد من الاشجار قريباً من السور الخارجي لثكنتنا ورحت أحث الخطى اليها، وفجأة ثمة من إنقض عليّ ودفعني الى خندق شقي سقطنا فيه معاً وما هي الا أجزاء اللحظة حتى اهتزت الأرض وغطانا التراب وامتلأت الرئات بالبارود وطارت فوقنا الشظايا، طائرة كانت منخفضة جداً وفي وضع التصويب نحو ما تبقى من ثكنتنا… لم يصب أحد والقنبلة سقطت وسط ساحة العرضات فيما تولت الشظايا إشعال النار في كدس الوقود وإحداث الثقوب الكثيرة في خزانات الماء. لم كل هذا الخراب الذي شيدناه حولنا؟ لم بحثي الدائب عن مصادر المعرفة ومراجعها ومتابعة انشطتها، لم الجهد في اكتساب الوعي؟ لم سجل حافل بالخسارات الشخصية؟ أكل ذلك من أجل أن أنتهي هنا؟ يا الهي ما ذا أفعل هنا؟ أرى ان بؤسنا كتركيبة إجتماعية هي فقدان القدرة على أتخاذ قرار يحفظ لها حق الهواء والبقاء على وجه البسيطة - قرار تموت من أجله أصغر الكائنات الحية وأدقها - لكن أجيالنا المحتشدة هنا في ظل المحرقة التي تعدها وتنفذها قوات التحالف الدولي وطائرات وقنابل "النظام الدولي الجديد"، والبقاء أسرى الرغبات التي تتفجر بها العبقرية (الفذةّ)، أرى - فيما يرى اليائس- اننا نستحق كل ما نتعرض إليه: المزيد من الكوارث نستحقها فعلاً، لابد من دفع ثمن جرائمنا الشخصية إضافة لجريمتنا الجماعية، جهلنا بالدفاع عن أولويات الحياة: الحرية… نعم أراها قريبة، شجرة أخرى لم تتعرف اليها أذرعنا، علها أذرع من سيبقى من أطفال بلادنا ستمتد اليها، وداعاً آخر أفراحنا البائسة، أهلاً لموتنا المنقذ.
ليل 25/1/1991 مطر كثيف هذا اليوم -لا طائرات إحتفلت أكتافنا بالمطر الساقط ولفح وجهي الكثير من الهواء البارد. أبحث عن زاوية دافئة… أشعلت النار في صندوق عتاد و..حذائي القديم، و استنشقت المسافات المختزلة في خطواتي… !! غارة الامس عجّلت بامر رحيلنا الى القاعدة الجوية - خبر مفزع اخر. في ملجأ عميق تحت الارض، غرف مضاءة - منذ فترة لم أر مصابيح مضاءة- منظمة، كمكاتب وأخرى للنوم والجلوس والطعام، وفيها تجمع الضباط والفنيون وآمرو الاقسام والوحدات الفرعية، كرهت إحساسهم المفاجئ بالامان، خرجت نحو مكاننا القديم بحجة التأكد من الخزين ونسبة النضح في الوقود.
خارج الملجأ، عجلات الضباط تجثو متباعدة وتتطلع بسكون نحو ظلام الأفق الصحراوي، الجنود عند باب الملجأ تجمعوا بصوت وهم يستمعون لاخبار الراديو، تفرقوا وأنا اسرع لسيارتي حين بدأت غارة جديدة.إنطلقت بالسيارة مسرعاً، غير انها سرعان ما ارتفعت عن الارض ونزلت بقوة فضرب رأسي سقفها القماشي، وارتطمت السيارة عند مرتقى ترابي، المكان في كرة من لهب برتقالي، رميت بنفسي على الارض، فيما توجه بصري على مركب اللهب، يا الهي انه الملجأ... تحول الملجأ الى مقبرة جماعية. صوت طائرة، ثم اخرى ثم اخرى، ثم صوت رعد فبرق يضي أفق المحرقة، لم يخرج أحد واستغرقت منا عملية الانقاذ الليل كله. في النهار اتضحت معالم الجثث … حامت حولنا القاصفة الستراتيجية "بي 52 " ولكنها اختارت محور صفوان –البصرة لتلقي بمقذوفاتها البالغة 39 طناً! وفي فترة تطول لاكثر من ربع ساعة تزلزل فيها الأرض وتنتزع فيها الافئدة من الاجساد - في حمم كهذه هناك من يطالب الجسد البشري الهش بان يبقي في خط المواجهة- أحد ضباط القاعدة حضر لتقديم التعازي اليّ، وقال: خذ من بقي معك وعودوا الى مكانكم القديم. |