والأغنية العربية حسب هذا التصور، أغنية معنية بالإستجابات السريعة عند المتلقين لاتلك التي تقصد صنع جمهورها الخاص القائم على وعي "فني" متقدم، وهذا يقودنا الى ثاني الملامح للوعي الاجتماعي في الأغنية العربية فهي ليست مؤثرة في صنع وعي "فني" وتذوق عال عند المتلقي، بل هي تستجيب لمشاعر المتلقي وترضي أنماط وعيه السهلة.
والمتلقي اليوم بات يؤثر في إتجاهات الأغنية التي توقفت عن صنع إجوائها الفنية الخاصة، ومن ثم كسب المتلقين اليها وعن طريق الانفعال الصادق بتلك الأجواء، هذا لا يعني عدم وجود محاولات من النوع الثاني (اي التأثير في المتلقي) لكنها باتت قليلة ونادرة.
إن الفنان الموسيقي (الملحن)، وعناصر الإشتغال الاخرى في الاغنية، كالصوت (المغني) والنص (الشاعر) الغنائي، ومخرجها على شريط صوري "فيديو كليب"، والموزع الموسيقي، حين يتوقفون عن ترجمة وعيهم "الفني" الذي يفترض أن يكون متقدماً على غيرهم في مجال عملهم، ويتحولون الى أدوات إستجابة لما يريده المتلقي يتوقف عندهم الفن لجهة كونه طاقة خلاقة على الابداع والابتكار، ويتحولون الى أجزاء من آلة ضخمة تنتج أحياناً مالا تعرفه من نتاجات غير محددة الملامح!
وثالث ملامح الوعي الاجتماعي في الأغنية العربية، هو أحادية توجهها في النظر الى عموم الحياة، فهي دائماً متعلقة بموضوعة لا تنفك تكرر نفسها، ألا وهي وصف العلاقة "العاطفية" بين المرأة والرجل، وهذا أيضا أمر طبيعي، فالغناء أصلا تعبير عن أشواق وعواطف، لكن أي "عاطفة"؟ وأي طريقة في تصويرها والتعبير عنها؟
انها طريقة الإستجابة لما هو متداول او الأقل منه مستوى ايضاً! فنحن نستغرب من طريقة تقليدية وفجة في تصوير تلك العلاقة حتى ولو إفترضنا انها الوحيدة الممكنة كموضوعة للاغنية، فما يزال الوصف تقليدياً والمشاعر دائماً مغلقة عن الحياة، وإن إنفتحت عليها فهي معنية بالتداولات العادية، كما ان الكثير من النصوص الغنائية تبدو مكتوبة خارج عصرها، متخلفة سنوات طويلة عن وقتنا بما يحمله من تغير في أشكال التعبير الروحي وتجسيد المشاعر.
الأغنية العربية في مضمونها العام تمضي باتجاهين لاتحيد عنهما إلا قليلاً، فهي أما "وطنية" تثير المشاعر الجماعية وتلهب الحماس (تتوهم مثل هذا التأثير)، أو"عاطفية" فيها الكثير مما يشوه "العاطفة" والقليل القليل مما يحسن الى جمالها، ويبرز قيمها الخيرة والانسانية.
الاغنية عندنا لا تنفتح على الحياة على الرغم من كوننا إجتماعياً نعيش فترة تصادم ظروف ومصائر، فترة تتصاعد فيها إمنيات وتخبو أيضاً، وفيها تنكسر قلوب وتضيع أنفس، وتسكن أرواح الى ظلام كثيف، وفيها الأيدي الطرية التي تشتغل وتبدع، وفيها أحلام وكوابيس، وفيها أمكنة سرية وأقبية وفيها فضاءات مفتوحة، فيها من الحياة ما لا ينتهي، وفيها من ظلام وبشاعة الاقصاء والعزلة، فيها صباحات متجددة دائماً، مثلما فيها أوقات غروب عسيرة، فيها المحلي الصرف وفيها المتصل الانساني.
وإتجاهات كهذه في مجتمعاتنا وحياتنا العربية، تدير لها الأغنية ظهرها لتنتج لنا دائماً أغنيات "عاطفية" بمثلما سبق وأن وصفناها، ومن هذه الملاحظات نستطيع أن نخرج بفكرة مفادها: إن مجتمعا كهذا يعيش ظروفاً كهذه لينتج أغنيات بملامح باهتة، لهو على درجة من خمول الوعي وميله الى السكون وتركه روح التجريب والابتكار، وتحول منظومة العمل الموسيقي والغنائي فيه الى جهات خدمة نفعية لما هو سائد من ذوق ومشاعر.