في سوسيولوجيا الاغنية: أزمة العرب ثقيلة لكن أغنيتهم خفيفة!

علي عبد الأمير

تاريخ النشر       20/10/2009 06:00 AM



هل تمكن قراءة الاغنية والموسيقى، ضمن مفهوم نقدي اجتماعي، والوصول الى تحديد ملامح فترة إجتماعية من خلال الأنغام التي انتجتها تلك الفترة؟ سؤال اقترحت إجابته عبر هذا المدخل..
الأغنية لم تعد المزحة البسيطة ولا تلك الرغبة "الشفافة" في قول شعر رومانسي مصاغ بموسيقى تقع عند المستمع، موقع الأرتياح أو أثارة مشاعره أيضاً، وهي عندنا الآن دخلت مرحلة "الصناعة"، وثمة من يعترض على ذلك، لكننا شئنا أم أبينا، إتفقنا أم اختلفنا فان الأغنية العربية دخلت مرحلة "الصناعة" وهذا لا يشكل عنصر ضعف لها، وإنتاج الأغنية لم يعد من باب الهواية أولاً ولا المتعة الفنية الخالصة لوحدها ثانياً، ولم تعد هناك جهة رسمية: إذاعات أو تلفزيونيات مرتبطة بالحكومات أو وزارات الأعلام تأخذ على عاتقها مهمات الانتاج مثلما كان يحدث سابقاً.

كما ان الصناعة بهذا المفهوم الإجرائي، ليست ما يشكل عيباً في مراحل الإنتاج، فهذا الشكل من الانتاج متعارف عليه عالمياً، ومنذ عقود طويلة وثمة حكايات ضخمة لا نريد ذكرها، وتدور عن صراعات شركات الانتاج الغنائي والموسيقى ومبتكراتها ووسائل تحسين منتجاتها من "إسطوانات القير الثقيلة الى اسطوانات الليزر المضغوطة". نحن اذن لسنا ضد تسمية "صناعة" ولكننا السؤال البارز المترتب على تحول الأنغام الى صناعة هو: هل يمكن أن نتقبل تسرب مفاهيم التسويق والانتاج الى الاغنية كبناء فني، أي ان تغدو قضايا العرض والطلب والرواج وإرضاء الأذواق، عوامل تحدد شغل أهل الغناء وانهماكهم.
 
وكي لا يبدو كلامنا مطنباً في "نظريته" لنذهب الى حقيقة ما يجري على الساحة الغنائية عربياً، ولندقق النظر لنجد مفارقة صارخة. فحين تتوالى على العربي أزمات لا حصر لها تضرب عناصر وجوده الأساسية وتطاول كل قيمة، نجد الغناء العربي الذي يعتبرمؤشر ذائقة ثقافية، وهو يمضي في "خفته" منقطعاً عن الاتصال بحياة العربي، ومنفصلاً عنه كمعنى وان بدا يستخدم مفردات العربية او ألوان الموسيقى العربية، لابل إننا قد لا نجانب الحقيقة حين نصوغ المشهد التالي، وإن بدا افتراضيا: قد يزورنا شخص أجنبي لا يعرف العربية كلغة ولم يسبق له أن تعاطى مع أزمات العرب القديمة او الحديثة، وبدأ يتطلع نحو قنوات التلفزة العربية، ويقع نظره على الاغنيات التي تبثها تلك القنوات فما الذي سيخرج به من ملاحظات؟
سيكتشف أن العرب أناس في غاية السعادة، لا بل أن حياتهم بهجة متصلة، حيث أن غالبية إغنياتهم بالحان راقصة، وفيها يظهر المغنون سعداء، تحيط بهم حسان لا يتوقفن عن الاهتزاز واظهار معالم الفتنة الجسدية، وهكذا فان العرب حسب هذا الزائر الاجنبي قوم إنتصروا على عقبات العصر الراهن وأزماته، وبنوا مجتمعاً "فاضلاً" ولم يعد لهم من مشاغل سوى إظهار علامات البهجة والمسرة والرقص والغناء!! ليست هذه صورة شديدة التهكم، بل هي لتبدو مخفقة تماماً لو قارنا باحكام ما بين وقائعنا الاجتماعية والذائقة التي تنتج الأغنيات أو التي تتقبلها أيضاً، ومن هذا الجانب نصل الى أول المضامين الإجتماعية للاغنية العربية، فطريقة إنتاجها تعكس الوعي الإجتماعي لمنتجيها، وأيضاً الوعي الاجتماعي لمستهلكيها (شرائح المتلقين).

والأغنية العربية حسب هذا التصور، أغنية معنية بالإستجابات السريعة عند المتلقين لاتلك التي تقصد صنع جمهورها الخاص القائم على وعي "فني" متقدم، وهذا يقودنا الى ثاني الملامح للوعي الاجتماعي في الأغنية العربية فهي ليست مؤثرة في صنع وعي "فني" وتذوق عال عند المتلقي، بل هي تستجيب لمشاعر المتلقي وترضي أنماط وعيه السهلة.
 
والمتلقي اليوم بات يؤثر في إتجاهات الأغنية التي توقفت عن صنع إجوائها الفنية الخاصة، ومن ثم كسب المتلقين اليها وعن طريق الانفعال الصادق بتلك الأجواء، هذا لا يعني عدم وجود محاولات من النوع الثاني (اي التأثير في المتلقي) لكنها باتت قليلة ونادرة.
 
إن الفنان الموسيقي (الملحن)، وعناصر الإشتغال الاخرى في الاغنية، كالصوت (المغني) والنص (الشاعر) الغنائي، ومخرجها على شريط صوري "فيديو كليب"، والموزع الموسيقي، حين يتوقفون عن ترجمة وعيهم "الفني" الذي يفترض أن يكون متقدماً على غيرهم في مجال عملهم،  ويتحولون الى أدوات إستجابة لما يريده المتلقي يتوقف عندهم الفن لجهة كونه طاقة خلاقة على الابداع والابتكار، ويتحولون الى أجزاء من آلة ضخمة تنتج أحياناً مالا تعرفه من نتاجات غير محددة الملامح!
وثالث ملامح الوعي الاجتماعي في الأغنية العربية، هو أحادية توجهها في النظر الى عموم الحياة، فهي دائماً متعلقة بموضوعة لا تنفك تكرر نفسها، ألا وهي وصف العلاقة "العاطفية" بين المرأة والرجل، وهذا أيضا أمر طبيعي، فالغناء أصلا تعبير عن أشواق وعواطف، لكن أي "عاطفة"؟ وأي طريقة في تصويرها والتعبير عنها؟

انها طريقة الإستجابة لما هو متداول او الأقل منه مستوى ايضاً! فنحن نستغرب من طريقة تقليدية وفجة في تصوير تلك العلاقة حتى ولو إفترضنا انها الوحيدة الممكنة كموضوعة للاغنية، فما يزال الوصف تقليدياً والمشاعر دائماً مغلقة عن الحياة، وإن إنفتحت عليها فهي معنية بالتداولات العادية، كما ان الكثير من النصوص الغنائية تبدو مكتوبة خارج عصرها، متخلفة سنوات طويلة عن وقتنا بما يحمله من تغير في أشكال التعبير الروحي وتجسيد المشاعر.

الأغنية العربية في مضمونها العام تمضي باتجاهين لاتحيد عنهما إلا قليلاً،  فهي أما "وطنية" تثير المشاعر الجماعية وتلهب الحماس (تتوهم مثل هذا التأثير)، أو"عاطفية" فيها الكثير مما يشوه "العاطفة" والقليل القليل مما يحسن الى جمالها، ويبرز قيمها الخيرة والانسانية.

 الاغنية عندنا لا تنفتح على الحياة على الرغم من كوننا إجتماعياً نعيش فترة تصادم ظروف ومصائر، فترة تتصاعد فيها إمنيات وتخبو أيضاً، وفيها تنكسر قلوب وتضيع أنفس، وتسكن أرواح الى ظلام كثيف، وفيها الأيدي الطرية التي تشتغل وتبدع، وفيها أحلام وكوابيس، وفيها أمكنة سرية وأقبية وفيها فضاءات مفتوحة، فيها من الحياة ما لا ينتهي، وفيها من ظلام وبشاعة الاقصاء والعزلة، فيها صباحات متجددة دائماً، مثلما فيها أوقات غروب عسيرة، فيها المحلي الصرف وفيها المتصل الانساني.

وإتجاهات كهذه في مجتمعاتنا وحياتنا العربية، تدير لها الأغنية ظهرها لتنتج لنا دائماً أغنيات "عاطفية" بمثلما سبق وأن وصفناها، ومن هذه الملاحظات نستطيع أن نخرج بفكرة مفادها: إن مجتمعا كهذا يعيش ظروفاً كهذه لينتج أغنيات بملامح باهتة، لهو على درجة من خمول الوعي وميله الى السكون وتركه روح التجريب والابتكار، وتحول منظومة العمل الموسيقي والغنائي فيه الى جهات خدمة نفعية لما هو سائد من ذوق ومشاعر.


 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM