علي عبدالأمير
قبل أيام* غادرنا الباحث والناقد أحمد فياض المفرجي، وأخذه الموت في صمت عميق, صمت كان يطبق على عزلته التي اختارته منذ عامين تقريباً وعبرها أوصد عليه الأبواب، وهو الذي عُرف بنشاطه الدائب، بحثاً واتصالاً وتوثيقاً. وهكذا يغيب أسم آخر من أسماء الثقافة العراقية، في وقائع الموت المعلن والحصار الذي يأتي من كل اتجاه، والخراب الذي يمتد نحو كل الأماكن.
الراحل أحمد فياض المفرجي... من رموز الجدية النادرة في الثقافة العراقية
تخرّج الراحل من معهد الفنون الجميلة أواخر الخمسينيات، وفي مفارقة لا تجتمع إلا عند مصير قلق كمصير المفرجي وأمثاله، عمل موظفاً في وزارة العدل، وكان (كاتب ضبط) في أكثر من محكمة، ومن عمله التوثيقي في المحاكم الجزائية ومحاكم الصلح وقضايا المرور، استثمر في نشاط آخر يتعلق باهتمامه الذي اوقف عليه لاحقاً جل حياته، ألا وهو توثيق وأرشفة التاريخ المسرحي والسينمائي العراقي، وعمل الكاتب الراحل في المركز العراقي للمسرح، وراح يبرز كمصدر للمعلومة الدقيقة والأمينة في كل مهرجان ومؤتمر عن السينما والمسرح داخل العراق وخارجه، وأصبح مكتبه ومركزه الوثائقي في دائرة السينما والمسرح، عزلة إبداعية من طراز خاص، طراز له علاقة بالدأب والجهد وكتابة الحقيقة.
ثلاثة من كتب الراحل المفرجي والتي صارت مراجع مهمة في حقلها
وعبر ما تجمع عنده من خبرات ومعلومات، كتب أحمد فياض المفرجي عدة مؤلفات في السينما العراقية والعربية، كذلك عدة كتب توثيقية في تاريخ المسرح العراقي وملامحه المتعددة، إضافة الى ملفات ضخمة امتلأت بمقالاته التي نشرها طوال عمله في الصحافة، وكانت تلك الملفات تبلغ من دقة التنظيم والحرص الذي شمل كل المقالات التي كتبها غيره أيضاً في مجال السينما والمسرح، حداً أصبحت فيه بمثابة الصندوق الحافظ للذاكرة والحقيقة، فيما يحصل لا بد أن ينتهي، وسنوات الكابوس المستمرة، لا بد أن تنهي صورها القاتمة، خطوات قادمة من أجيال ستتعرف على حياة كانت تتفاعل وتنشط في التعبير، وهذه الحياة أسهم الراحل في توثيقها وإيداعها مكانها الذي تستحق.
والحارس الأمين لصفحات الماضي والحاضر من الحياة المسرحية والسينمائية العراقية، كان قد تعرض لأزمات حقيقية في السنتين الأخيرتين، إضافة الى أزمة وطنه وشعبه الأكبر، فقد ماتت زوجته وهو يحملها على كتفه في الطريق الى المستشفى, ثم جاءت حادثة أخرى عام 1994 لتكشف عن عمق الأزمة التي يعيشها, حيث وُجدت ورقة بخط يده، يعلن فيها عن عزمه على الإنتحار يأساً من حياة تقترب من الموت وظلامه، فكان قد اضطر لبيع مكتبته كي يؤمن لقمة عيشه، وإزاء الإهمال الذي تعرض له، مزق آلاف الأوراق الخاصة به وبتاريخ العمل الفني العراقي والتي لم يكن قد أنهى عمله عليها.
لم ينتحر أحمد فياض المفرجي، غير أن الموت كان قد أطبق على روحه وأنهاها قبل أيام في احتجاج معلن.
فارقنا من دون أن ندري!
وعن المفرجي ورحيله الصادم كتب الفنان يوسف العاني: نعم مات الأستاذ الأمين لصفحات الماضي والحاضر من واقع وحقائق مسرحنا العراقي والسينما العراقية".
ويضيف "الغريب إنني حسبت أنه سيموت في ثلاث مناسبات، الأولى كانت عام 1976 يوم حملنا أخاه، زهرة مسرحنا العراقي (فاروق) إلى مثواه الأخير .... كان يسير بعيداً عني .... في ذلك اليوم تركت الفاجعة عندي خدراً في يدي اليسرى ولم أقدر على تحريكها، لم أحك لأحد، لكننا وحينما أودعنا فاروق الثرى، صرخ أحمد، أستاذ يوسف ... فاروق ما عنده دور في مسرحية الخان؟ وبكى .... صرخت نعم وبكيت بحرقة عاد الدم إلى يدي وما كنت أدري أن سخونة الدمع قد شلّت يدي في ذلك اليوم وأنا أرقب أحمد وما حل به، حسبت أنه سيموت لكنه لم يمت.
المناسبة الثانية، يوم ماتت زوجته الفاضلة الكريمة على كتفه وهو في طريقه إلى المستشفى، كان مذهولاً مأخوذاً محسوساً بلا حياة ... لكن أحمد لم يمت.
المناسبة الثالثة عام 1994, يوم وُجدت ورقة كتبها بخط يده يعلن عن عزمه في الانتحار بعد أن يئس من الدنيا وباع مكتبته ومزّق كل أوراق ومصادر أرشيفه الثمينة .... في وصيته تلك كان يدعو أصدقائه ألا يبحثوا عنه، وأن نتركه في المكان الذي سينتحر فيه .... لكن أحمد لم ينتحر ولم يمت !
هذه المرة جاء الخبر، تماماً كما يأتينا النبأ العجب ... لا ندري أصحيح أم خطأ؟ أحقيقة أم خيال؟!! وكنت أنا وعادل كاظم نود زيارته عسانا نُخرجه من صومعته وعزلته ونرش أملاً في صحرائه المجدبة القاحلة ... عسانا نعيده الى الحياة من جديد ... الغريب الغريب ... أننا كنا نفكر بالحياة الجديدة له ... وأحمد فياض كان قد فارق الحياة بأيام من دون أن ندري، ثم درينا .... أنه مات، وفارقنا إلى الأبد".
*علي عبدالأمير، صحيفة "بغداد" اللندنية الإسبوعية 31-7-1996