علي عبدالأمير عجام
ثمة حاجة أحيانا إلى نذير كي تتحسس الكارثة، وثمة من يدفعك أحيانا بقوة هائلة إلى الكارثة ذاتها. التشكيلي محمد الشمري من النوع الثاني الهادر في وضوحه حتى مع أقصى حدود الرهافة والعلامات المضمرة في عمله. أما الكارثة فهي اللحظة التي أعلن فيها "البيان رقم 1" الخاص بيوم 22-9-1980 حيث بدء البيانات اليومية للحرب مع إيران والتي غيّرت الحياة في البلاد وإلى زمن امتد حتى اللحظة. مساران يضعنا حيالهما الشمري الذي أحسن صنعاً بالتحول إلى "الفيديو آرت" والخروج بالتعبير التشكيلي من حدود اللوحة (رسم أو حفر) والثبات الكتلوي (نحت)، فثمة مسار التلفزيون بكل إحالاته ومستلزماته وخطابه (البيان ولغة الحرب وأهوالها)، ومسار المعرفة الجمالية والرهافة العصرية التي كانت كثير من الشباب العراقي تلك الأيام يتطلع إليها وتمثل سعيه إلى الاتصال الحر بالعالم المعاصر وثقافته (مرموز إليها هنا في أغنية للفريق البريطاني- البيتلز". صحيح أن الأغنية "Help " معنى دال على تلك اللحظة الجهنمية لجهة الحاجة للمساعدة أو العون ولكن المعنى في استخدامها ليس هذا وحسب، بل الأصل هو في كونها دلالة على الاتصال الثقافي الحيوي الذي كان يصبو إليه شباب بلادنا تلك الأيام.
لا صعوبة في تلقي عمل الشمري بكونه اختصاراً لمعنيين نقيضين يجتمعان في لحظة واحدة من العيش بل على مساحة واحدة وإن بدت صغيرة (الشاشة)، فثمة الحرب ولغتها وبالتالي الأهوال التي تعنيها، بمقابل الأغنية ونغمها الذي يبدو وكأنه حلم ما سيتمزق بلا رحمة! هذا تكثيف هائل لمعنى مضطرب وصادم يحيلني شخصياً إلى ما كنت عليه فعلياً في تلك الحرب التي عشتها قذيفة قذيفة وخندقا خندقا من أول معاركها إلى آخرها، فقد كنت أواجه تلك الأهوال والمخاوف والدماء والجثث المتطايرة بكثير من الموسيقى، ومن النوع الذي يقترب من الأغنية التي استخدمها الشمري في عمله، بل كنت، وأنا في عمق المعارك، أكتب نقدأ موسيقيا عن تلك الأغنيات وأواظب على نشره في مجلة "فنون" البغدادية! ما معنى أن تستدل على كارثة في نحو 160 ثانية (زمن الفيديو)؟ قطعاً هي قوة الاختزال، قطعاً هي عمق الإشارات ودلالاتها، وفي ذلك يبرع الشمري إيما براعة، فهو لا يتحذلق أنما يدفعك إلى الجوهر مباشرة، حتى إن كان ذلك جوهراً كارثياً وصاخباً، خذ عمله المثير عن الحرب الطائفية مثالاً وهو فيديو آرت ببيادق الشطرنج البيض والسود (المعنى الرمزي للطائفتين) المتقابلة على رقعة المواجهة التي تتحول حريقاً شاملاً. هناك فنانون من عصرنا، وهذا حسنٌ ولطيف ولكن محمد الشمري هو عصرنا ذاته بلا مواربة، وبلا حذلقة، هو حان كاغنية رقيقة وجارح كحقيقة.
|