علي عبد الأمير عجام
في ربيع 2015، أعادتني انتكاسة صحية إلى الولايات المتحدة، والعمل من جديد في قناة "الحرة"، ولكن ليس في التلفزيون هذه المرة، انما في تحرير موقع "إرفع صوتك" التابع لها والمصصم لمهمة جوهرية تتعلق بالتصدي المعرفي للأسباب المتصلة بصعود العنف والتطرف في العراق والمنطقة. المهمة المهنية الأخيرة، تتوج سيرة في الصحافة الرقمية، تمتد إلى نحو عشرين عاماً، وبدأت فعلياً في العام 1998، حين التقيت للمرة الأولى بالروائي والناشر العراقي صاموئيل شمعون خلال زيارته العاصمة الأردنية حيث كنت أقيم وأعمل، وفوجئت بتقنياته التي يستخدمها في عمله، حين كان محرراً ثقافياً للموقع الأليكتروني الرائد عربياً: "إيلاف". فهو طلب مني مجموعة من النصوص وقام بطبعها على الفور في كومبيوتره النقال، والتقط لي عدداً من الصور، ثم أرسلها على الفور إلى مقر الموقع في لندن. بعد ساعات كنت في منزلي أتابع، من خلال كومبيوتري (ديسك توب)، نصوصي منشورة وبصحبتها صورتين لي بأخراج أنيق. أدهشني ذلك حقا، فبدأت بطي صفحة التصوير الفوتوغرافي التقليدي، حين اشتريت كاميرا رقمية من السوق الحرة بمطار عمّان، أثناء سفرة لي إلى لندن، ومن السوق ذاتها، اشتريت كومبيوتراً نقّالاً (لاب توب) في طريق العودة. في العام 1999، اكتمل عقد "الإتحاد العام للكتاب والصحافيين العراقيين" المعارض لمؤسسات النظام الحاكم في بغداد، والذي كنت أدير فرعه في العاصمة الأردنية، وكان لابد من مساحة حرة معاصرة لنشر نشاطه ونصوص أعضائه والكثير من المثقفين العراقيين في الأردن وأوروبا وعواصم المنفى الكثيرة. ولإنجاز هذه الفكرة اتجهت إلى تأسيس موقع اليكتروني للاتحاد ومنشوراته ونشاطاته، وكان عوني في ذلك هما الفنانان والمنتجان الرائدان للثقافة الرقمية: علي زيني وخالد رحيم وهل اللذان كان افتتحا مركزاً لتصميم المواقع الاليكترونية الحديثة في وقتها، ضمن مكتب هو جزء من "غاليري الأندى" الفني- الثقافي في العاصمة الأردنية.
تحققت فكرة مغايرة عن الثقافة العراقية في طابعها الرسمي الذي كانت تحدده مؤسسات نظام صدام حسين، وبدأت رياح جديدة تهب في هذا المجال، فثمة الصورة في تجلياتها المعاصرة والتاريخية إلى جانب النصوص، وبدأت مجلة "المسلة" الفصلية الثقافية التي كان الإتحاد يصدرها، تجد شقيقها الرقمي إلى جانب الورقي المتداول. وكم أحسن الصديق د. علي زيني صنعاً حين تنبه إلى الموقع الخاص بالاتحاد وظل وفياً لريادته حين أبقاه حياً ومتواصلاً مع فكرته كموقع رصين للثقافة العراقية.
جاءت التحولات والأحداث العاصفة التي سبقت حرب الإطاحة بنظام صدام حسين أو التي أعقبتها، لتؤجل مشواري المهني والثقافي الشخصي بعامة مع الصحافة الرقمية، لأعوّض ذلك بعمل مكثف رئيساً لتحرير صحيفة "بغداد" ومديراً لمكتب راديو "سوا" في بغداد ومراسلاً لصحيفة "الحياة" وعضواً في لجنة الأعلام التابعة لمجلس الحكم المؤقت، ومشاركاً من خلالها في مناقشات وضع الأسس المهنية والعملية لشبكة اعلام الدولة العراقية التي صارت لاحقاً "شبكة الإعلام العراقي". وحين أطلقت الرصاصات في 17 ايار/مايو 2004 على رأس أخي المفكر والناقد قاسم عبد الأمير عجام حين كان للتو استلم مهمة إدارة "دار الشؤون الثقافية" في وزارة الثقافة، كانت الأحلام الشخصية والعامة قد أخلت مساحتها لزمن من الكوابيس والهزائم، صارت مفتتحاً لنهاية ربيع العراق القصير، وبدء مرحلة الانهيارات والقتل والفساد التي ما انفكت تتواصل فصولاً مرعبة حتى اليوم. لم يعد الوقت مناسباً لا لمشروعات تغيير جدية وحقيقية، ولا عمل شخصي وعام من أجل تأسيس صحافة عصرية ومهنية في البلاد التي عانت لعقود من ظل الديكتاتورية الثقيل. بعد سنة من عملي في قناة "الحرة" وبدء برنامجي الأسبوعي من خلال شاشتها، بدأت مشواراً جديداً مع الصحافة الرقمية، ففتحت صفحة شخصية على موقع "يوتيوب" في العام 2005 ظلت فاعلة ومؤثرة حتى 2010، وضمت فيديوهات حقق بعضها عشرات الآلاف من المشاهدات، وبينها حوار مع الأستاذ حسن العلوي في 2006 كان مثيراً لجهة ما تضمنه من قراءات للمسار الذي بدأته الأحداث في البلاد: الحرب الأهلية.
في نهاية العام 2006 فتحت صفحة على موقع "فيسبوك" الذي كان قد بدأ عمله قبل أشهر، واستثمرته في جوانب مهنية تتعلق ببث فقرات من عملي الإعلامي، وأخرى شخصية تتعلق بنتاجي الأدبي والثقافي بعامة، وأفكارٍ شخصية حول التاريخ المعاصر للعراق، اجتماعياً وسياسياً، عبر التوثيق الدقيق بالصورة والكتب والخرائط مختلف أنواع الوثائق الدقيقة والرصينة التي بدأت علاقتي معها، منذ عام 2003، حين شاهدت عمليات الحرق والتدمير والنهب لمؤسسات الذاكرة الوطنية: دار الوثائق، المكتبة الوطنية، المتحف العراقي وغيرها، فقررت إقامة نوع من "مؤسسة شخصية" تعنى بحفظ بعض مما فقدته البلاد في عمليات لا أجدها تمت عبثاً، وبكل وحشية وقسوة. المرحلة المهمة في مشواري مع الصحافة المعاصرةMulti media والنشر الرقمي، كانت مع تأسيسي موقعي الشخصي على الانترنت www.aliabdulameer.com العام 2008، وأسعى مع كل فسحة من الوقت إلى تحديثه ليضم نتاجي في مختلف أشكال الكتابة والعرض الثقافي. وأشعر اليوم بالإمتنان لأكثر من مليون زائر توقفوا عند الموقع وقرأوا ما رأوه مناسباً لهم وباعثاً على الإطلاع والاتصال.
ومنذ خريف العام 2011 حتى حزيران/يونيو 2014 سعيت بجد إلى إدارة موقع إخباري عراقية بهوى عربي وإنساني، هو موقع "ساحات التحرير" الذي توفر على فرصة لإقامة صحافة رقمية عراقية رصينة جرئية لجهة فتحها نافذة على الصحافة الاستقصائية الموثقة بالأسانيد الصحيحة والأصيلة، لكنها فرصة أخرى لم تتواصل، حيث مضى أصحاب المشروع إلى نهجٍ يتعارض حتى مبادىء الصحافة المهنية البسيطة، نهج التحريض والتهريج والعمل الدعائي البغيض. كأن نهاية مشواري مع ذلك المشروع نهاية أخرى للأحلام الشخصية والعامة، حيث لا مكان لها في بلاد الفوضى والفساد المطلق والجريمة المنظمة.
|