متابعة: علي عبد الأمير*
كتابان صدرا حديثاً هما "أوديسا الفضاء" لمايكل بنسون، و" ستانلي كوبريك" لناثان إبرامز، وتضمنا مراجعة عميقة للمخرج كوبريك وتحديداً فيلمه الرؤيوي " أوديسا الفضاء 2001" الذي قدمه في عام 1968. الفيلم الذي صار من علامات السينما في العالم، كان قد خضع للتأجيل المتكرر (بدأ تصوير الفيلم في أواخر عام 1965) ومضاعفة الميزانية الأصلية التي بلغت 6 ملايين دولار تقريبًا، وتم الترحيب به أولاً كفيلم عن الكوارث كما سعى كوبريك إلى إضفاء ذلك الطابع على المشروع. وعندما بدء عرض الفيلم تلقى المديرون التنفيذيون في شركة MGM (المنتجون للفيلم) حقيقة كانت تبدو سببا حمل إليهم الذعر، ففي العرض الأول في نيويورك، خرج سدس الجمهور من القاعة. ووصف النقاد الفيلم بأنه " مملة بشكل كبير" و "فشل تام غير مشوق" بل" قمامة تتنكر بهيئة عمل فني". لم يكن أي من ذلك يعني شيئًا للمشاهدين الأصغر سنا الذين بدأوا يصطفون في يوم الافتتاح واستمروا في الخروج من قاعة عرض فيلم بدا كأنه "تدفق متواصل للوحي" استشهد به كتأثير فني من قبل صانعي الأفلام الذين تابعوه. ففيلم "2001" لا يزال فريدًا حتى بين أعمال كوبريك: "بطيء، بيضاوي الشكل، غامض متعمد، وغالبًا ما يكون بلا كلام" يقول الناقد ومدير المكتبة الأمريكية للأفلام، جوفري أوبريان، لافتا إلى إنه من المشكوك فيه ما إذا كان هذا الفيلم يمكن أن يجمع جمهورًا واسعًا الآن ، ومن غير المرجح أن يحصل أي مخرج سينمائي على فرصة المخاطرة به" مثلما فعل كوبريك. إن مخاطرة كيوبريك (يظهر في الصورة اثناء العمل على الفيلم) كما يقول المؤلف مايكل بنسون، بدءت برسالة المخرج إلى الروائي والباحث آرثر سي. كلارك حول "إمكانية القيام بفيلم خيال علمي جيد حقاً"، ولجعل المقامرة كبيرة. "لم يكن لدينا نص نهائي" بحسب مصمم الإنتاج توني ماسترز: "سنجتمع مع ستانلي في المساء ونتحدث عما سنفعله في اليوم التالي - ونتيجة لذلك ، سيتغير الأمر برمته. كان عملنا في قسم الإنتاج أشبه بالعمل الانتحاري ".
كيوبريك يظهر في الصورة اثناء العمل على الفيلم
السيد ماسترز كان واحدا فقط من جيش صغير من المجندين الذين يقدمون مساهمات حاسمة وتحولوا إلى مركز أبحاث عملاق وبحثي. إذا بدا "أوديسا الفضاء2001" الآن من بقايا حقبة لا يمكن تصورها أصلاً ، ذلك لأن كل عنصر من عناصره في محاكاة تمثيلية لعصر رقمي مستقبلي يجب تخيله وابتكاره وبناءه باليد. صحيح إن عمليات التخيل وابتكار أي عنصر قد تطورت على مر السنين، لكنها تظهر مدى انتشار الطاقات الإبداعية على نطاق واسع. يلاحظ جوفري أوبريان ان افتتاحية "فجر الإنسان" في الفيلم كانت مطولة وحافلة بالأخطاء وبالذات محاولتها إيجاد أزياء للأجناس البشرية القديمة، فقد كان من الضروري أن تكون هذه الأزياء مرنة وقابلة للتصديق على حد سواء، في حين أن الدكتورة الأمريكية دان ريختر، التي ستلعب دور الإنسان الرئيسي، درست غوريلا في حديقة حيوان ريجنتس بارك ودربت فرقة من الراقصين لتقليده على الحركات والسلوك. في غضون ذلك، سافر المصورون إلى ناميبيا لجمع صور المناظر الطبيعية التي يمكن دمجها مع العمل الأصلي. وعندما أرسلوا صوراً لكوبريك لأنواع نادرة من أشجار ناميبيا، ذهب إلى حد حثهم على إزاحة عدد قليل منها بصورة غير مشروعة وإعادتها مرة أخرى لاستخدامها في قسم الإنتاج الفني الخاص بالفيلم. لم يسمح كوبريك إلا قليلاً بعرقلة أي شيء يظن أنه ضروري للفيلم، فكان جهاز الطرد المركزي الدوار الذي يبلغ وزنه 30 طناً والذي يمثل الأحياء التي يعيش فيها رواد الفضاء الموجودين في كوكب المشتري، مرتفعاً بشكل منتظم وسط زخات من الأضواء المتفجرة لتوفير محاكاة مقنعة لحالة انعدام الجاذبية، وبذلك شجع كوبريك الأعمال المثيرة المثيرة للخطورة "من بين الأشياء العظيمة في ستانلي كوبريك أنه كان يتمتع بسلامة فنية هائلة لا تصدق، و من الناحية الأخلاقية كان أضعف قليلا". قضى المخرج أيامًا طويلة بمصنع مهجور في مانهاتن وسط نيويورك، يصور نجمات مطلية بمزيج من الحبر والأصباغ، وقد اتضح أنها المكونات الأولية لحلقة "ستار جيت" في الفصل الأخير للفيلم، حين يقوم رائد الفضاء الناجح بجعل رحلته الأخيرة "أبعد من اللانهاية". وبطريقة مماثلة ، تم بناء الفيلم بأكمله قطعة تلو الأخرى، بحسب طريقة لا يجيدها غير كوبريك فقط. حتى عندما اكتمل فيلم "أوديساء الفضاء 2001" و فضل كيوبريك الرحيل في الفجوات والألغاز، وربما أدرك أن هذا هو التفسير العقلاني الذي سيحدث بسرعة أكبر، ونتيجة لذلك، أصبح الفيلم عملا في الرؤيا المتواصلة المعاني حتى يومنا هذا. وفي كتاب ناثان ابرامز "ستانلي كوبريك: يهودي نيويورك النخبوي"، محاولة لاستكشاف تناقضات علاقة المخرج كوبريك مع الهوية اليهودية، حيث تم تصوير الفيلم من خلال عدسة التوراة، فيجد ملاحظة هامشية: "كان برج بابل بداية عصر الفضاء." تأويلات "أوديسا الفضاء" لا تزال مفتوحة بشكل رائع، وهو ما جعل الفيلم حاضرا حتى بعد خمسين عاما على عرضه الأول.
*نشرت المتابعة في اليوم التالي عبر موقع "كتابات" الأليكتروني.
|